البحر الخفيف وأهم القصائد عنه
على الرغم من كون البحر الخفيف خفيفاً على السمع واللفظ، إلا أنَّه يُعَدُّ من البحور الشعرية صعبة النظم التي تحتاج إلى موهبة شعرية أصيلة وفذة ليستطيع الشاعر دمج المعنى الذي يريد قوله في أوزان وتفعيلات هذا البحر.
نستطيع أن نلاحظ الاتزان الذي يضيفه هذا البحر على البيت الشعري من خلال قراءة أبيات بديعة منظومة عليه كالتي كتبها “بدوي الجبل” و”المتنبي”، وفي هذا المقال سوف نخوض في تفاصيل البحر الخفيف، ونتحدَّث عن تفعيلاته وجوازاته ونستعرض أشهر القصائد التي نُظمت على هذا البحر.
البحر الخفيف:
البحر الخفيف بحر من بحور الشعر العربي نال من اسمه النصيب الوافر، ويُصنَّف بوصفه واحداً من أجمل بحور الشعر العربي من ناحية الموسيقى، ومن أكثرها خفة وسلاسةً، ويُقال إنَّه سُمِّي بالخفيف لخفته في اللفظ والسمع.
نظم كثير من الشعراء قصائدهم على وزنه، ومع مرور الأيام ازدادت القصائد المنظومة عليه بوصفها تحدياً من قِبل الشعراء لإثبات فحولتهم الشعرية، حتى طغى في الآونة الأخيرة على غيره من بحور الشعر.
مفتاح البحر الخفيف:
يَا خفيفاً خَفَّتْ بِهِ الْحَرَكَاتُ | فَاْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلاتُ |
وزن البحر الخفيف:
فَاْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلاتُنْ | فَاْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلاتُنْ |
يُعَدُّ البحر الخفيف بحراً ثنائي التفعيلة؛ إذ يرتكز بناؤه على تفعيلتين اثنتين هما “فَاْعِلاتُنْ” و”مُسْتَفْعِلُنْ” اللتين تردان في بحور أخرى بالتأكيد مثل بحري الرمل والرجز، لكن في البحر الخفيف تكون لهما بصمة خاصة، ويقوم إيقاع البحر الخفيف على التناغم الجميل بين التفعيلتين “فاعلاتن” و”مستفعلن”، وعلى كل من بدائلهما الزحافية “فَعِلاتن” و”مُتَفعِلُن”.
عند الاطلاع على القصائد الشعرية المنظومة على البحر الخفيف نجد أنَّ “مُتَفعِلُن” أكثر استخداماً من الأصل “مستفعلن”، وأنَّها أجمل وقعاً في النفس والأذن، وفي الحقيقة نجد أنَّ “مستفعلن” قلَّما توجد بصورتها الأصلية، وخاصة في مجزوء الخفيف.
حشو البحر الخفيف:
بالنسبة إلى حشو البحر الخفيف، فإنَّه يتعرض لنوعين من الحشو، وهما:
- زُحاف الخبن: ويعني حذف الثاني الساكن، وبناءً على ذلك تتحول “فَاْعِلاتُنْ” إلى “فَعِلاتُنْ” وتتحول “مُسْتَفْعِلُنْ” إلى “مُتَفْعِلُنْ”.
- زُحاف الكف: ويعني حذف السابع الساكن، وبناءً على هذا الزحاف تتحول “فَاْعِلاتُنْ” إلى “فَاعِلاتْ”، كما تتحول “مُسْتَفْعِلُن” إلى “مُسْتَفْعِلُ”.
عروض بحر الخفيف وضربه:
بالنسبة إلى عروض البحر الخفيف قد تتحول “فَاعِلاتُنْ” إلى “فَاعِلات”، وفي مجزوء البحر الخفيف قد تتحول “مُسْتَفْعِلُنْ” إلى “مُتَفْعِلُنْ”.
أما بالنسبة إلى ضرب البحر الخفيف، فقد تتحول “فَاعِلاتُنْ” إلى”فَاعِلات” أو “فَالاتُنْ”، كما قد تتحول “مُسْتَفْعِلُنْ” في مجزوء البحر الخفيف إلى “مُتَفْعِلُنْ” أو “مُتَفْعِلْ”.
أنواع البحر الخفيف:
يتألف البحر الخفيف من نوعين، هما الخفيف التام والخفيف المجزوء، وفيما يأتي توضيح لكل منهما مع الأمثلة:
1. الخفيف التام:
صيغته:
فَاْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلاتُنْ | فَاْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلاتُنْ |
مثال:
ليسَ من ماتَ واستراحَ بميْتٍ
إنَّما الميتُ ميِّتُ الأحياءِ
التقطيع:
ليسَ من ما توسْ ترا ح بمي تن
إنْ نَملْ ميْ تُميْ يتُلْ أح يا ئي
الحركات:
/ه//ه/ه //ه//ه ///ه/ه
/ه//ه/ه //ه//ه /ه/ه/ه
التفعيلات:
فَاْعِلاتُنْ مُتَفْعِلُنْ فَعِلاتُنْ
فَاْعِلاتُنْ مُتَفْعِلُنْ فَالاتُنْ
2. مجزوء الخفيف:
صيغته:
فَاْعِلاتُنْ مُتَفْعِلُنْ
فَاْعِلاتُنْ مُتَفْعِلُنْ
مثال:
قتلَ الجهلُ أهلَهُ
ونجا كلُّ من عَقَلْ
التقطيع:
قتلَلْ جَهْ لُ أه لهو
ونجا كلْ لُ من عقل
الرموز:
///ه/ه //ه//ه
///ه/ه //ه//ه
التفعيلات:
فعلاتن متفعلن
فعلاتن متفعلن
شاهد بالفديو: أشهر الكتاب والأدباء العرب ومؤلفاتهم
أشهر قصائد البحر الخفيف:
لقد تحدَّثنا عن كون البحر الخفيف يضفي على الأبيات المنظومة عليه خفة في النطق والسمع، وتحدَّثنا أنَّه يشكِّل تحدياً للشعراء، فهو أقرب إلى أن يكون السهل الممتنع، والذي تظن لفرط خفته أنَّه سهل النظم، ولكنَّه في الحقيقة يحتاج إلى عبقرية شعرية، وفيما يأتي أشهر القصائد التي نُظمت على وزن البحر الخفيف:
1. قصيدة عنترة بن شداد: “حسناتي عند الزمان ذنوب”:
حَسَناتي عِندَ الزَمانِ ذُنوبُ
وَفَعالي مَذَمَّةٌ وَعُيوبُ
وَنَصيبي مِنَ الحَبيبِ بِعادٌ
وَلِغَيري الدُنُوُّ مِنهُ نَصيبُ
كُلُّ يَومٍ يُبري السُّقامَ مُحِبٌّ
مِن حَبيبٍ وَما لِسُقمي طَبيبُ
فَكَأَنَّ الزَمانَ يَهوى حَبيباً
وَكَأَنِّي عَلى الزَمانِ رَقيبُ
إِنَّ طَيفَ الخَيالِ يا عَبلَ يَشفي
وَيُداوى بِهِ فُؤادي الكَئيبُ
وَهَلاكي في الحُبِّ أَهوَنُ عِندي
مِن حَياتي إِذا جَفاني الحَبيبُ
يا نَسيمَ الحِجازِ لَولاكِ تَطفا
نارُ قَلبي أَذابَ جِسمي اللَهيبُ
لَكِ مِنِّي إِذا تَنَفَّستُ حَرٌّ
وَلِرَيَّاكِ مِن عُبَيلَةَ طيبُ
وَلَقَد ناحَ في الغُصونِ حَمامٌ
فَشَجاني حَنينُهُ وَالنَّحيبُ
باتَ يَشكو فِراقَ إِلفٍ بَعيدٍ
وَيُنادي أَنا الوَحيدُ الغَريبُ
يا حَمامَ الغُصونِ لَو كُنتَ مِثلي
عاشِقاً لَم يَرُقكَ غُصنٌ رَطيبُ
فَاِترُكِ الوَجدَ وَالهَوى لِمُحِبٍّ
قَلبُهُ قَد أَذابَهُ التَعذيبُ
كُلَّ يَومٍ لَهُ عِتابٌ مَعَ الدَّه
رِ وَأَمرٌ يَحارُ فيهِ اللَّبيبُ
وَبَلايا ما تَنقَضي وَرَزايا
ما لَها مِن نِهايَةٍ وَخُطوبُ
سائِلي يا عُبَيلَ عَنِّي خَبيراً
وَشُجاعاً قَد شَيَّبَتهُ الحُروبُ
فَسَيُنبيكِ أَنَّ في حَدِّ سَيفي
مَلَكَ المَوتِ حاضِرٌ لا يَغيبُ
وَسِناني بِالدارِعينِ خَبيرٌ
فَاِسأَليهِ عَمَّا تَكونُ القُلوبُ
كَم شُجاعٍ دَنا إِلَيَّ وَنادى
يا لَقَومي أَنا الشُّجاعُ المَهيبُ
ما دَعاني إِلَّا مَضى يَكدِمُ الأَرضَ
وَقَد شُقَّت عَلَيهِ الجُيوبُ
وَلِسُمرِ القَنا إِلَيَّ اِنتِسابٌ
وَجَوادي إِذا دَعاني أُجيبُ
يَضحَكُ السَّيفُ في يَدي وَيُنادي
وَلَهُ في بَنانِ غَيري نَحيبُ
وَهوَ يَحمى مَعي عَلى كُلِّ قِرنٍ
مِثلَما لِلنَّسيبِ يَحمي النَّسيبُ
فَدَعَوني مِن شُربِ كَأسِ مُدامٍ
مِن جَوارٍ لَهُنَّ ظَرفٌ وَطيبُ
وَدَعوني أَجُرُّ ذَيلَ فَخارٍ
عِندَما تُخجِلُ الجَبانَ العُيوبُ
2. قصيدة الحارث بن عباد: “كل شيء مصيره للزوال”
كُلُّ شَيءٍ مَصيرُهُ لِلزَّوالِ
غَيرَ رَبِّي وَصالِحِ الأَعمالِ
وَتَرى الناسَ يَنظُرونَ جَميعاً
لَيسَ فيهِم لِذاكَ بَعضُ اِحتِيالِ
قُل لِأُمِّ الأَغَرِّ تَبكي بُجَيراً
حيلَ بَينَ الرِجالِ وَالأَموالِ
وَلَعَمري لَأَبكِيَنَّ بُجَيراً
ما أَتى الماءُ مِن رُؤوسِ الجِبالِ
لَهفَ نَفسي عَلى بُجَيرٍ إِذا ما
جالَتِ الخَيلُ يَومَ حَربٍ عُضالِ
وَتَساقى الكُماةُ سُمَّاً نَفيعاً
وَبَدا البيضُ مِن قِبابِ الحِجالِ
وَسَعَت كُلُّ حُرَّةِ الوَجهِ تَدعو
يا لِبَكرٍ غَرَّاءَ كَالتِمثالِ
يا بُجَيرَ الخَيراتِ لا صلحَ حَتَّى
نَملَأَ البيدَ مِن رُؤوسِ الرِجالِ
وَتَقَرَّ العُيونُ بَعدَ بُكاها
حينَ تَسقي الدِما صُدورَ العَوالي
أَصبَحَت وائِلٌ تَعِجُّ مِنَ الحَربِ
عَجيجَ الجِمالِ بِالأَثقالِ
لَم أَكُن مِن جُناتِها عَلِمَ اللَّٰهُ
وَإِنِّي لِحَرِّها اليَومَ صالِ
قَد تَجَنَّبتُ وائِلاً كَي يُفيقوا
فَأَبَت تَغلِبٌ عَلَيَّ اِعتِزالي
وَأَشابوا ذُؤابَتي ببُجَيرٍ
قَتَلوهُ ظُلماً بِغَيرِ قِتالِ
قَتَلوهُ بِشِسعِ نَعلٍ كُلَيبٍ
إِنَّ قَتلَ الكَريمِ بِالشِّسعِ غالِ
يا بَني تَغلِبَ خُذوا الحِذرَ إِنَّا
قَد شَرِبنا بِكَأسِ مَوتٍ زُلالِ
يا بَني تَغلِب قَتَلتُم قَتيلاً
ما سَمِعنا بِمِثلِهِ في الخَوالي
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لَيسَ قَولي يرادُ لَكِن فعالي
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
جَدَّ نَوحُ النِّساءِ بِالإِعوالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
شابَ رَأسي وَأَنكَرَتني القَوالي
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لِلسُّرى وَالغُدُوِّ وَالآصالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
طالَ لَيلي عَلى اللَّيالي الطِّوالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لِاِعتِناقِ الأَبطالِ بِالأَبطالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
وَاِعدِلا عَن مَقالَةِ الجُهَّالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
كُلَّما هَبَّ ريحُ ذَيلِ الشَّمالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لِبَجَيرٍ مُفَكِّكِ الأَغلالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لِكَريمٍ مُتَوَّجٍ بِالجَمالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لا نَبيعُ الرِّجالَ بَيعَ النِّعالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَّعامَةِ مِنِّي
لِجَبيرٍ فداهُ عَمِّي وَخالي
قَرِّباها لِحَيِّ تَغلِبَ شوساً
لِاِعتِناقِ الكُماةِ يَومَ القِتالِ
قَرِّباها وَقَرِّبا لَأمَتي دِرعاً
دِلاصاً تَرُدُّ حَدَّ النِّبالِ
قَرِّباها بِمُرهَفاتٍ حِدادٍ
لِقِراعِ الأَبطالِ يَومَ النِّزالِ
رُبَّ جَيشٍ لَقيتُهُ يَمطُرُ المَوت
عَلى هَيكَلٍ خَفيفِ الجِلالِ
سائِلوا كِندَةَ الكِرامَ وَبَكراً
وَاِسأَلوا مَذحِجاً وَحَيِّ هِلالِ
إِذا أَتَونا بِعَسكَرٍ ذي زُهاءٍ
مُكفَهِرِّ الأَذى شَديدِ المَصالِ
فَقَرَيناهُ حينَ رامَ قِرانا
كُلَّ ماضي الذُّبابِ عَضبِ الصِّقالِ
3. قصيدة ابن الدهان: “من مجيري من ظالم مستطيل”
مَن مُجيري مِن ظالِم مُستَطيلِ
وَمُعيني عَلى اِقتِضاءِ المُطولِ
حَسَنٌ لَيسَ مُحسِناً بِمُحبٍّ
وَجَميلٌ ما عِندَهُ مِن جَميلِ
لجَّ قَلبي بِه وَقَد لَجَّ في الإعراضِ
عَنِّي وَلَجَّ فيهِ عَذولي
أَبَداً ظامئ إِلى خمر ثَغرٍما
إِلى سَلسَبيله مِن سَبيلِ
أَبَداً يَرجِعُ الرَّسولُ إليهِ
مثل ما عادَ مِن دِمَشقَ رَسولي
مَنعوده الَّذي تَطوَّلت يا مَولاي
بعد المطالِ وَالتَّطويل
لَم يَكُن عِندَهُ قَبولٌ لتوقيعك
غير التَّعظيمِ وَالتَّقبيلِ
يَعِدونا الوَفاءَ لا بِكَثير
يُسعِدونا منه وَلا بِقَليلِ
يا كَريمَ الزَّمان يا واحدَ
العَصرِ وَخيرَ الوَرى وأَوفى مُسيل
قَد أَرى الدَّهر وَالتَّنَزُّه وَالجو
سَق عافي الرَّسوم خاوي الطُّلول
وَتَحَيَّزَتُ في الثَّناءِ وَقَد كانَ
عَلى ما تَجودُه تَعويلي
في الختام:
كان هذا مقالنا عن البحر الخفيف، وهو واحد من بحور الشعر الفراهيدية الذي لاحظنا معاً خفته على اللسان، واعتماده على تفعيلتين رئيستين تشتق عنهما بعض التفرعات في الخفيف التام ومجزوء الخفيف.
في ختام هذا المقال لا يسعنا إلا أن نكون ممتنين لـ “الفراهيدي” على نباهته في استنباط هذه الموسيقى الكامنة في الأشعار، لتتعلمها الأجيال وتتناقلها، فيحتفظ الشعر العربي برونقه الأصيل بعيداً عن عبث العابثين.