تنوَّعت أشكال البحور عبر العصور والثقافات، مثل البحور العربية التقليدية مثل الطويل والكامل والوافر والمجتث، إضافة إلى البحور الحديثة التي تطورت مع تطور الشعر الحديث.
تُعَدُّ دراسة البحور جزءاً هاماً من تحليل النص الشعري؛ إذ يسهم في فهم بنية القصيدة وتحليلها بشكل أعمق، ويتطلب استخدام البحور مهارة وإبداعاً من الشاعر ليتمكن من تشكيل أبيات شعرية تلتزم بالقواعد، وتحمل معاني وجمالاً يستحق الاهتمام والتأمل.
تُعَدُّ البحور الشعرية جزءاً أساسياً من تراثنا الأدبي العريق، وتظل تؤدي دوراً هاماً في تشكيل وجمال الشعر بمختلف لغات العالم؛ لذا سنخصِّص مقالنا هذا للحديث عن أحد البحور الشعرية المهملة وهو البحر المقتضَب، وسنذكر وزنه وتفعيلاته، ورأي العلماء فيه، وأهم القصائد التي نُظمت عليه.
يُعَدُّ البحر المقتضَب من البحور المركبة والمهملة وقليلة الانتشار في الشعر العربي القديم، ويرى العروضيون أنَّ سبب تسميته بالمقتضَب ترجع لأنَّه اقتُطع أو اقتُضب من البحر المنسرِح الذي شطره: (مستفعلن مفعولات مستفعلن)، بينما المقتضب تتقدم فيه (مفعولات) التي تتوسط المنسرِح، وكأنَّ المقتضَب مقطوع من المنسرِح إذا حُذف من أوله (مستفعلن).
ما هو وزن البحر المقتضب وتفعيلاته؟
يُبنى البحر المقتضب على التفعيلتين (مفعولاتُ ومستفعلن)، ولم يرد بصورته التامة؛ بل ورد مجزوءاً، والشائع في البحر المقتضب عروض واحد وضرب واحد، ويشتهر زحاف الطي في حشوه، ويلزم في عروضه وضربه، فتأتي عروضه مطوية، وضربه مطوياً فتتحول فيهما التفعيلة (مستفعلن) إلى (مستعلن)، وتُنقل إلى (مفتعلن)، وتتحول (مفعولات) إلى (مفعلات).
شاع لهذا البحر العروض مطوية (مفتعلن) والضرب مثلها (مفتعلن)، كما قد يدخل الطي في الحشو في (مفعولات)، فتصبح (مفعلاتُ)، وتُنقل إلى (فاعلات)، ويدخل حشو البحر المقتضب كل من زحاف الخبن أو الطي، غير أنَّهما يتعاقبان، فلا يجتمعان، ولا يسقطان، وأما العروض والضرب في المقتضب فيجب فيها الطي، وذهب بعض المحدثين إلى أنَّ للمقتضب وزناً محدَّثاً، وهو (فاعلات فع)، ومنها قصيدة “شوقي” التي تبلغ سبعين بيتاً وصف فيها مرقص.
ما هو رأي العلماء في البحر المقتضب؟
استحسن “الأخفش” الاستغناء عن هذا البحر، ورأى أنَّ ذلك هو أفضل، وأعاد السبب إلى أنَّ العرب لم تنشد عليه قصائد كاملة، والأشعار التي وردت على هذا البحر تأتي بصورة بيت أو بيتين، أو مقطوعات صغيرة لا تصل إلى مستوى القصيدة المعروفة.
أتانام بششرنا … بلبيان وننذري //ه/ه/ /ه///ه … /ه//ه/ /ه///ه فعولات مفتعلن … فاعلات مفتعلن نلاحظ هنا أنَّ (مفعولات) في الصدر خبنت فتحولت إلى (معولات)، ثم تحولت إلى (فعولات)، و(مفعولات) في العجز طويت فتحولت إلى (مفعلات) ثم إلى (فاعلات).
14. لصفي الدين الحلي قصيدة على غرار قصيدة أبي نواس:
كلما ذكرتهمُ
هزني لهم طربُ
جيرة بحيهمُ
ليس يحفظ الحسب
العهود عندهمُ
والحقوق تغتصبُ
في خيامهم قمر
بالصفاح محتجبُ
ريقه معتَّقةٌ
ثغره لها حببُ
15. لحازم القرطاجني مطولة على هذا الوزن ومنها:
عاد قلبه طربُ
حين زمَّت النُّجبُ
وانطوى على حرق
قلبه لها نهبُ
لم يهج صداي سوى
مبسم به شنبُ
شاهد بالفديو: حقائق ومعلومات قد لا تعرفونها عن اللغة العربية
16. قال شوقي في قصيدة مطولة مشهورة من هذا الوزن والقافية في وصف ليلة راقصة:
حف كأسها الحبب
فهي فضةٌ ذهب
أو دوائرٌ دررٌ
مائج بها لببُ
الليوث مائلة
والظباء تنسرب
الحرير ملبسها
واللجين والذهبُ
والقصور مسرحها
لا الرمال والعشبُ
يستفزها نغم
لا صدى ولا لجبُ
يستعاد مرقصه
تارة ويقتضبُ
فالقدود بان ربى
بيد أنَّها تثبُ
يلعب العناق بها
وهو مشفق حدبُ
فهي مرة صعد
وهي مرة صببُ
الرؤوس مائلة
في الصدور تنتحب
والنحور قائمة
قاعد بها الوصبُ
والنهود هامدة
والخدود تلتهب
والخصور واهية
بالبنان تنجذبُ
سال الأكف بها
فهي أغضن نهبُ
هذه عروس نهى
في القبول ترتقب
زفها لكم وجلا
شاعر الحمى الأرب
احتفى الحضور بها
واكتفى بها الغيب
أنتم الظلال لنا
والمنازل الخصبُ
17. لصفي الدين الحلي مقطوعة يقول فيها:
ليس عنك مصطبر
حين أسعد القدرُ
إنَّ صفو عيشتنا
لا يشوبه كدرُ
فابتدر لمجلسنا
فاللبيب يبتدرُ
واعجبن لشمس ضحى
قد سعى بها قمرُ
18. يقول شوقي في قصيدة بعنوان “البنون والحياة الدنيا”، يعزي فيها الدكتور “محمد حسين هيكل” في فقد ولده الحبيب:
الضلوع تتَّقد
والدموع تطردُ
قل لثاكلين مشى
في قواهما الكمدُ
لم يُعاف قبلهما
والدٌ ولا ولدُ
الذين مِيلَ بهم
في سفارهم بعدوا
ما علتما أشقوا
بالرحيل أم سعدوا
19. قال خليل مطران:
القلوب والمقلُ
هن للهوى رسلُ
ربها وآمرها
يقتضي فتمتثلُ
حاكم مشيئته
لا تردها الحيلُ
20. ليت قومنا غضبوا:
ليت قومنا غضبوا
يومَ ينفع الغضبُ
21. قد وهبته عمري:
قد وهبته عمري
ضاع عنده العمرُ
في الختام:
نادى “الخليل” بالاستغناء عن البحر المقتضَب، ولكنَّه أقرَّ به على الرغم من إهماله من قِبل كثير من الشعراء القدامى والحديثين؛ لذا يكون لزاماً على الشعراء المعاصرين أن ينظموا بعض أشعارهم على هذا البحر، حتى يظل باقياً، لا سيما أنَّه لا يقلُّ شهرةً عن باقي البحور.
يُعَدُّ البحر المقتضَب بمنزلة لعبة شعرية تتطلب دقة وابتكاراً في استخدام الكلمات وتناسقها مع القواعد العروضية، ويعكس هذا البحر روح الابتكار والإبداع في الشعر، فيمكن من خلاله التعبير عن فكرة معقدة بشكل بسيط ومبتكَر.
يعزز استخدام البحر المقتضب قدرة الشاعر على تحدي الصعوبات وتجاوزها بأسلوب شعري جذاب وملهم، وبهذا يثبت الشعراء مهارتهم في التحكم باللغة والتعبير عن أفكارهم بأبهى صورة دون الحاجة إلى الإطالة أو الإعراب الزائد، وإنَّ الاستمتاع بجمالية البحر المقتضب يعكس تقديرنا لقوة الكلمة وقدرتها على إيصال المعاني بشكل موجز وفعال.