اللغة الشعرية لمحمد الماغوط
يُعدُّ الماغوط أحدَ أهمِّ شعراء العصر الحديث الذين كتبوا في مختلف أنواع الفنون الأدبيَّة، فكتبَ الخاطرة، والقصيدة النثريَّة، والرِّواية، والمسرحيَّة، وسيناريو المسلسل التلفزيوني، والفيلم السينمائي، وتتجلَّى مهارة الماغوط في قدرته على تطويع اللُّغة الشِّعريَّة بمهارة، ويعتمدُ على توظيف الصُّور البصريَّة والمفردات الغنيَّة؛ ليخلقَ لوحاتٍ شعريَّة تنبضُ بالحياة والعواطف، ويركِّزُ الماغوط في أعماله الشعريَّة على قضايا الإنسانِ والحياة بأسلوبٍ مميَّزٍ يتَّسمُ بالعمقِ والصدق؛ وهذا ما جعلَ من شعره مصدرَ إلهامٍ للعديد من القُرَّاء والأدباء، وعلى بساطة أسلوبه، إلا أنَّهُ ينقلُ رسائله بقوَّة.
سنتحدَّثُ في هذا المقال عن اللُّغة الشعريَّة عند محمد الماغوط، وكيف استطاع أن يصوغَ بلغته الخاصَّة أعمالاً تبقى خالدةً في أذهان القُرَّاء والباحثين عن جمال الكلمة وعمق المعنى.
خصائص اللغة الشعرية عند محمد الماغوط:
1. الألفاظ البسيطة:
تميَّزَ شعرُ محمد الماغوط بسهولة الألفاظ، واستخدام الكلمات المفهومة التي لا تحتاجُ إلى معاجمَ أو قواميس لفهمها، ويعتمدُ الماغوط في لغتِه على مصادر الحياة اليوميَّة، وحياة النَّاس البُسطاء، ويقدِّمُ نثره بلغةٍ تنبعُ من واقع الحياة اليوميَّة؛ ولهذا يتَّصلُ شِعرَهُ بالواقعِ المُعاش، فالشِّعر عنده يأتي من الحياة وليس من الخيال أو النظريَّات، فيقول في قصيدة (طريق الحرير):
“كلُّ يومٍ أكتشفُ في وطني مجداً جديداً
وعاراً جديداً
أخباراً ترفعُ الرَّأس
وأخرى ترفعُ الضَّغط”
2. الإيجاز في التعبير:
يُعدُّ الإيجاز في التَّعبير من مزايا شعرِ محمد الماغوط، ويتمثَّلُ في قدرته على جمعِ معانٍ كثيرة في كلماتٍ قليلة، فمع أنَّهُ استخدمَ عدداً محدوداً من الكلمات في أشعاره، إلا أنَّه استطاعَ التَّعبير عن معانٍ عميقةٍ ومُعقَّدةٍ في الوقت نفسه، ويمكنُ أن نفسِّرَ هذا؛ بأنَّهُ كان يتمتَّعُ بقدرةٍ فطريَّةٍ على اختيار الكلمات بدقَّةٍ لنقلِ المعاني الأكثر إيجازاً وعمقاً، إضافةً إلى ذلك كان يُتقنُ استخدام التَّشبيه والرُّموز ببراعةٍ، وهذا ما ساعدَه على توصيلِ رسالته بكفاءةٍ وإحكامٍ، ويعكسُ ذلك قدرتَه على استخدامِ اللُّغة بموهبةٍ لا مثيل لها؛ لتحقيقِ أقصى تأثيرٍ مُمكنٍ في القارئ، فيقول مثلاً:
“لن يوصلني إلى المجدِ
والجَّوائز العالميَّة الكُبرى
نوبل أو سواها
الثَّقافة
وترجمات إليوت، وفوكنر، وإرنست همنغواي
بل .. البرد – الخبز اليابس – السُّجون – السِّياط –
والصِّدق – البراءة – القمل”
3. الترابط اللغوي:
يتميَّزُ شعر محمد الماغوط باستخدامه المُتقَن للتَّرابط اللغوي في لغته الشِّعرية، ويعتمدُ الماغوط في كتابةِ قصائدِه على ترابطِ المعاني والكلمات، ويستخدمُ – في أغلب الأحيان – حالتين متشابهتين في المعنى وتعتمدان في الوقتِ نفسه على بعضهما، وتكملان بعضهما، ويضفي الأسلوب عمقاً وغنى على النصِّ الشِّعري، ويسهمُ في إثراءِ تجربة القارئ وتفسيره للنَّص، فهو يدفعُ القارئَ إلى التأمُّلِ والتَّفكير في المعاني المتعدِّدة التي يمكن أن تنطوي عليها الكلمات والتَّراكيب اللُّغوية المُستخدَمة، فيقول في قصيدة (المسافر):
“بلا أملٍ
وبقلبي الذي يخفقُ كوردةٍ حمراءَ صغيرة
سأودِّع أشيائي الحزينةَ في ليلةٍ ما
بقعَ الحبرِ
وآثارَ الخمرةِ الباردة على المُشمَّعِ اللَّزج
وصمتَ الشُّهورِ الطَّويلة
والناموسَ الذي يمصُّ دمي
سأرحلُ عنها بعيداً .. بعيداً”
شاهد بالفيديو: حقائق ومعلومات قد لا تعرفونها عن اللغة العربية
4. الصور الشعرية في شعر محمد الماغوط:
– الصور الثيمية:
يُقصَدُ بالصُّور الثيميَّة؛ الصُّور التي تحملُ تجارب الشاعر الشُّعورية، وتُعبِّرُ عن وجهة نظره تجاه الحياة، وتشرحُ مواقفه العامَّة والخاصَّة، فشعرُ محمد الماغوط مساحةٌ مفتوحة للحزِنِ الذي رافقه منذ الطفولة، مثل العناوين “حزنٌ في ضوءِ القمر”، وغالباً ما ربطَ الماغوط بين الحزنِ والانكسار، فالعلاقةُ بينهما علاقةُ السَّببِ بالنتيجة، فالانكسار يولِّدُ الحزن الذي يشتدُّ أو يضعفُ بحسب درجة الحزن، وكذلك يأتي الألمُ ليعزِّزَ الصُّور المُرتبِطة بالحزن والانكسار، أمَّا الحُريَّة فيتناولها الماغوط دائما وكأنَّ هناك ما يخنقُ حريَّته، ليصلَ إلى الموت المتوقَّعِ في كلِّ لحظةٍ من لحظاتِ حياته، ولم ينسَ الماغوط الوطنَ الذي تراوحَت مشاعره تجاهه بين الحُبِّ والسَّخط، ومن الصُّور الثيميَّة في لغة محمد الماغوط الشعرية:
- الحزن: “حزينٌ لأنَّ قصائدي غدَت مُتشابِهة.. وذات لحنٍ.. جريحٍ لا يتبدل.. أريدُ أن أرفرفَ… أن أتسامى”
- الانكسار: “أيَّتها الجُّسور المُحطَّمة في قلبي”
- الحرية: “أنا لا أنامُ… حياتي سوادٌ وعبوديَّةٌ وانتظار”
- البكاء: “أجهِشُ ببكاءٍ حزينٍ”، “ترتسمُ الدُّموعُ في عيني”، “أبكي بحرارةٍ”
- الأمل: “يا رب تشرِقُ الشَّمسُ”، “يطلعُ النَّجمُ”، “لتشرقَ الشَّمس”
- الموت: “انصبوا مشنقتي عاليةً عند الغروب”، “أودُّ أن أموتَ مُلطَّخاً”، “وعيناي مليئتان بالدُّموع”
- الغربة: “لا وطنٌ لنا ولا أجراس”، “وأنا أرتطمُ في قاع المدينة كأنَّني من وطنٍ آخر”
- الضياع: “لا امرأة لي ولا عقيدة… لا مقهى ولا شتاء”، “سأرحلُ بعد قليل وحيداً ضائعاً”
- الألم: “النَّجيعُ ينشدُ على طرفِ اللِّسان”
– الصور التشبيهية:
التشبيهُ: هو صورة تقومُ على تمثيل شيءٍ حسيٍّ أو مجرَّدٍ بشيءٍ آخر حسيٍّ أو مجرَّدٍ؛ لاشتراكهما في صفة مُحدَّدة، فالتَّشبيه يجمع بين كائنين مختلفين في سمةٍ أو أكثر، والصُّور التشبيهيَّة البصريَّة هي الغالبة في شعر محمد الماغوط، وتأتي الصور اللمسيَّة في المرتبة الثانية، ويهدفُ الماغوط من استخدامه للصُّور التشبيهيَّة إلى العودة بالشِّعر إلى بساطته، ومن الصُّور الواردة في شعر الماغوط:
“مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبة
أتسكَّعُ كالضَّبابِ المُتلاشي
كمدينةٍ تحترقُ في الليل
والحنين يلسعُ منكبيَّ الهزيلين
كالرِّياح الجَّميلة، والغُبار الأعمى
فالطَّريق طويلة
والغابة تبتعدُ كالرمح”
المثال |
المُشبَّه |
أداة التشبيه |
المُشبَّه به |
أتسكَّعُ كالضَّباب المُتلاشي |
الشَّاعر المُتسكِّع |
الكاف |
الضَّباب المُتلاشي |
كمدينةٍ تحترقُ في اللَّيل |
الشَّاعر المُتسكِّع |
الكاف |
مدينةٌ تَحترقُ |
والحنينُ يلسعُ منكبيَّ الهزيلين كالرِِّياحِ الجميلة والغبارِ الأعمى |
حنين الشَّاعر حنين الشَّاعر |
الكاف الكاف |
الرِّياح الجَّميلة الغبار الأعمى |
والغابةُ تبتعدُ كالرمح |
الغابة |
الكاف |
الرمح |
قال في مواضع مختلفة:
المثال |
المُشبَّه |
أداة التشبيه |
المُشبَّه به |
وأتركُ الدمعةَ تبرقُ كالصَّباح |
الدَّمعة |
الكاف |
الصَّباح |
أتألَّمُ كالماء حول السَّفينة |
ألمُ الشَّاعر |
الكاف |
الماء |
شَعرُكِ الذي كان ينبضُ على وسادتي كشلاَّلٍ من العصافير |
شَعرُكِ |
الكاف |
الشَّلال |
تذبلُ الطُّفولة في الطُّرقات الخاوية كسحابةٍ من الورد والغبار |
الطُّفولة |
الكاف |
سحابة من الورد والغبار |
– اللون والضوء:
يُعدُّ اللون أداةً هامَّةً في التَّعبير الفنِّي، فلكلِّ لونٍ أهميَّته ودلالته، والصُّور اللونيَّة في شعر محمد الماغوط كثيرة، فاستخدم الماغوط مثلاً اللون الأحمر؛ ليشيرَ به إلى الجمال، والعناء، واللذَّة الحسيَّة، والشَّهوة، والعهر، والموت، فيقول في مواضع مختلفة:
- وأتمنَّى أن أغمسَ شفتيك بالنَّبيذ، وألتهمُكِ كتفَّاحةٍ حمراءَ على منضدة.
- واخفُق يا قلبي الجَّريح بكثرةٍ، ففي حنجرتي اليوم بلبلٌ أحمر يودُّ الغناء.
وفقاً لـ “رابح ملوك” الذي أعدَّ دراسةً خاصَّةً بالصُّورة الشعريَّة عند محمد الماغوط، فإنَّ استخدام الصُّورة اللونيَّة في شعر الماغوط ، كان كما يأتي:
الأسود |
5 |
العسلي |
2 |
الأخضر |
9 |
الأرجواني |
2 |
الأشقر |
7 |
الرمادي |
2 |
البرتقالي |
1 |
الأشهل |
1 |
الأسمر |
2 |
البرونزي |
1 |
الأحمر |
13 |
الخمري |
1 |
الأبيض |
7 |
البنفسجي |
1 |
الأزرق |
1 |
الوردي |
2 |
الأصفر |
7 |
الذهبي |
1 |
5. التضاد:
هي كلمات متقابلة لا يُلغي أحدها الآخر، بل تُضيفُ إلى المعنى أبعاداً جديدةً، فهي تسلكُ اتِّجاهاتٍ مُتعاكسة، وهي كثيرة في شعر الماغوط كقوله في قصيدته (سرير تحت المطر):
“من خلال عينيك السعيدتين أرى قريتي وخطواتي الكئيبة”،
وقوله في قصيدة (القتل):
“الشِّتاءُ كالجَّمرِ”.
6. التكرار:
يكونُ التَّكرار في القصيدة الواحدة أو على مستوى الدِّيوان كلِّه، والتَّكرار قد يكون كاملاً، أو يكون ناقصاً، ويكونُ في محتوى الصُّورة وليس في شكلِها، ومثال ذلك ما جاء في قصيدته (المسافر):
- سأرحلُ عنهم جميعا بلا رأفة
- سأرحلُ عنها بعيداً… بعيداً.
- أنت القدرُ، أنا الصُّدفةُ
- أنت الرَّبيع، أنا الشِّتاء
- أنت اللَّيل، أنا النُّجوم
- أنت الصحراء، أنا البحر
- أنت الحبُّ، أنا الزَّمن
في الختام:
جعلَت لغةُ محمد الماغوط الشعرية المميزة منه أحدَ أبرز شعراء العصر الحديث، وذلك بفضلِ استخدامه الحكيم للألفاظ السَّهلة والمَفهومة، والتَّرابط اللُّغوي الدَّقيق، واستعماله الفني للصُّور الشعرية، فتمكَّنَ الماغوط من صياغةِ قصائد تلامسُ أعماقَ القلوب، وتُثيرُ العواطف لدى القارئ، وعلى بساطة لغته، فإنَّ شعر الماغوط يتمتَّعُ بعمقٍ يُعبِّر عن واقعِ الحياة وتجاربِ الإنسان بكل تعقيداتها وجماليَّاتها، وشعره إرثٌ أدبيٌّ يستحقُّ الاحتفاء به، واستكشافه من الأجيال القادمة.