شعراء المعلقات السبع
ولهذا عدَّها النقَّاد والرواة على مرِّ العصور “قمَّة الشعر العربي”، وسمِّيت المعلَّقات بأسماء كثيرة منها: “المطوَّلات”، و”المذهَّبات” وشعراؤها هم: “امرؤ القيس”، و”طَرفة بن العبد”، و”لبيد بن ربيعة”، و”زهير بن أبي سُلمى”، و”عنترة بن شدَّاد”، و”عمرو بن كلثوم”، و”الحارث بن حلزة اليشكري”، ويُعدُّ هؤلاء الشعراء أعمدة هذا الفن الشعري الذي أثرى الأدب العربي بتفرُّده وتميُّزه.
سنقدِّم لكم في هذا المقال نبذة موجزة عن حياة كلِّ شاعر من شعراء المعلقات وسرِّ معلَّقته.
ما هو سبب تسمية المعلَّقات بهذا الاسم؟
سُمِّيت المعلَّقات بهذا الاسم؛ لأنَّه يقال إنَّ العرب استحسنوها، فكتبوها بماء الذهب، وعلَّقوها على جدران الكعبة، كما سمِّيَت المعلَّقات أيضاً بـ “المذهَّبات”، فيُقال: مذهَّبة امرؤ القيس ومذهَّبة عنترة بن شداد.
عدد قصائد المعلَّقات
تختلفُ الآراء بين الرواة بشأن عدد المعلَّقات وشعرائها، فاتَّفقوا في البداية على خمسٍ منها، وهي معلَّقات “امرؤ القيس”، و”زهير بن أبي سُلمى”، و”لبيد بن ربيعة”، و”طَرفة بن العبد”، و”عمرو بن كلثوم”، ولكنَّهم اختلفوا في الباقي، فمنهم من يعدُّ معلَّقتي “عنترة بن شداد” و”الحارث بن حلزة اليشكري” جزءاً من المعلَّقات لتصبح سبع، ومنهم من يرى أنَّها عشر، بإضافة قصائد “النابغة الذبياني” و”الأعشى” و”عبيد بن الأبرص”.
شعراء المعلَّقات السبع
سنتحدَّث في السطور الآتية عن شعراء المعلَّقات السبع، وهم:
1. “امرؤ القيس”
يُلقَّب بـ “الملك الضلِّيل” و”ذي القروح” و”أمير الشعراء”، وهو آخر أمراء “كندة”، وأبوه “حجر بن الحارث” آخر ملوك “كندة” التي كانت تسيطر على منطقة “نجد”، ووالدته “فاطمة بنت ربيعة” شقيقة “كليب بن ربيعة التغلبي”، وأخت “الزير سالم المهلهل” بطل حرب البسوس.
اشتهر “امرؤ القيس” بالغزل الفاحش، وقد طرده والده لأنَّه كان يشبِّب بالنساء، ومنهنَّ “فاطمة بنت العبيد العنزية”، والتي ذكرها في معلَّقته (أفاطم مهلاً بعد هذا التدلُّل) وقد ظلَّ شارداً إلى أن جاءه نبأ مقتل والده فقال: “ضيَّعني صغيراً، وحمَّلني دمه كبيراً”، وبهذا بدأت المرحلة الثانية من حياة “امرئ القيس”، الحياة البعيدة عن اللهو والمجون، فبدأ البحث للثأر لأبيه من “بني أسد” الذين قتلوه، فسار نحو قيصر الروم بعد أن جمع العتاد والسلاح؛ طلباً للمساعدة، وأصبح هناك نديماً للقيصر الذي أحبَّه، ووعده بمساعدته؛ لكثرة ما سمع من شعره وأخباره، فأرسل معه جيشاً بينهم أمراء من الروم.
بعد أن غادره “امرؤ القيس”، قيل للقيصر: “إنَّك أمددت أبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب، وهم أهل غدر، فإن استمكن مما أراد، وقهر بهم عدوه، غزاك”، فبعث قيصر الروم بعد ذلك بحلَّةٍ مسمومة ومنسوجة من الذهب مع رجل كان معه من العرب ويسمَّى “الطمَّاح”، وقد سُرَّ “امرؤ القيس” بها، فلبسها، فنال السمُّ من جسمه، وتقرَّح جلده؛ لذا لقَّبته العرب بـ “ذي القروح”، وتوفي في مدينة ببلاد الروم تدعى “أنقرة “، ودُفِن فيها.
سُئِلَ الإمام “علي بن أبي طالب” كرَّم الله وجهه: “من أشعر الشعراء؟ فقال: “إنَّ القوم لم يَجروا في حَلبة تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها، فإن كان ولا بدَّ فالملكُ الضلِّيلُ”، وسُئِل “الفرزدق”: من أشعر الناس؟ قال: ذا القروح؛ يعني “امرأ القيس”، وسُئِلَ “لبيد”: من أشعر الناس؟ فقال: “الملك الضلِّيل”، والحقيقة: ليس المراد بتقديم “امرئ القيس” أنَّه قال ما لم تقله العرب؛ بل لأنَّه ابتكر بعض الأساليب الشعرية التي اتَّبعها الشعراء بعده، ومنها: استيقاف صحبه، والبكاء على الأطلال، ورِقَّة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبِيض، والخيل بالعقبان.
بدأ معلَّقته بالبكاء على مغادرة الديار، واحتوت على الغزل، فوصف فيها الحبيبة، ووصف المرأة، ووصف الليل، والمطر، وحصانه، وهي من البحر الطويل، وعدد أبياتها 78 بيتاً، ولعلَّ من أجمل أبياتها:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أَلا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ
وَلا سِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ
أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِ
وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِيْ فَأَجْمِلِي
وَإنْ كنتِ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّيْ خَليْقَةٌ
فَسُلِّيْ ثِيَابِيْ مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
أَغَرَّكِ مِنِّيْ أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي
وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إِلا لِتَقْدَحِي
بِسَهْمَيْكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
شاهد بالفديو: حقائق ومعلومات قد لا تعرفونها عن اللغة العربية
2. “لبيد بن ربيعة”
هو “لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة”، مات والده في الحرب وهو صغير، ووالدته عبسيَّة اسمها “تامرة بنت زنباع”، عاصرَ العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي؛ فسُمِّيَ “الشاعر المخضرم”، وكان “لبيد” فارساً شجاعاً وسخيَّاً وشريفاً، فتألَّقت أخلاقه، وبانت قيَمه في كلِّ مرحلة من مراحل حياته، وكان من الشعراء الذين لم ينحازوا لمدح الناس من أجل الشهرة أو المكاسب، بل انتهجَ مبدأً واضحاً في إيصال الحقيقة بأمانة.
تُوفي “لبيد” مسلماً في سنة 40 للهجرة، تاركاً وراءه إرثاً من الشعر، والذي اشتهر منه معلَّقته التي تضمَّنت 88 بيتاً من البحر الكامل، وتتنوَّع موضوعات معلَّقته بين وصف ديار الحبيبة، ورحلة الحبيبة، ووصف الناقة، والفخر الشخصي والقبلي، أمَّا قافية معلَّقته فتنتهي بـ “الميم المضمومة”، وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: “أصدق كلمة قالتها العرب، قول لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل”.
يقول “لبيد” في معلَّقته:
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها
بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسمُها
خَلَقاً كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
وَالعَينُ ساكِنَةٌ عَلى أَطلائِها
عوذاً تَأَجَّلُ بِالفَضاءِ بِهامُها
3. “زهير بن أبي سُلمى”
ينحدر “زهير بن أبي سُلمى” من قبيلة “مُضَر”، ويُعدُّ من أعلام الشعراء في العصر الجاهلي، فهو حكيم الشعراء، ويحظى بتقدير كبير من قبل أئمَّة الأدب العربي، ولم يكن ذلك عارضاً؛ لأنَّه كان يتمتَّع بموهبة استثنائية في الشعر، فوالده، وخاله، وأخته “سلمى”، وأخته “الخنساء”، وأبناؤه “كعب” و”بجير” كانوا جميعاً شعراء مشهورين.
وُلِد “زهير” في المدينة المنورة، واشتهر بأسلوبه الراقي وقوَّة تعبيره، وكان له أسلوب خاص في نظم الشعر، فكان يصوغ القصائد خلال شهر، وينقِّحها ويهذِّبها خلال سنة كاملة؛ لذا تُعرَف قصائده باسم “الحوليَّات”، ومن بين أشهر أعماله معلَّقته التي تتألَّف من 59 بيتاً، وتُقسم إلى 6 أبيات في الأطلال، و9 في الظعائن، و10 في مدح الساعين بالسلام، و21 في الحديث عن المتحاربين، و13 في الحكم.
يقول في معلَّقته:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ
بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
وَدارٌ لَها بِالرَقمَتَينِ كَأَنَّها
مَراجِعُ وَشمٍ في نَواشِرِ مِعصَمِ
بِها العَينُ وَالأَرآمُ يَمشينَ خِلفَةً
وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مَجثِمِ
وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً
فَلَأياً عَرَفتُ الدارَ بَعدَ التَوَهُّمِ
أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَرَّسِ مِرجَلٍ
وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ
4. “عنترة بن شدَّاد”
هو “عنترة بن عمرو بن شدَّاد بن عمرو”، أحد أشهر فرسان العرب في الجاهليَّة، وتعود أصوله إلى منطقة “نجد”، ويُذكَر أنَّ والدته كانت حبشيَّةً تُدعى “زبيبة”، وورث عنها سواد بشرته، وتميَّز “عنترة” بأخلاق عظيمة وكرم شديد، وتفوَّق على غيره من العرب في الشجاعة والفخر بالنفس، وكان حليماً ومتواضعاً، وتميَّز شعره بالعذوبة والرقَّة، ولا يمكن ذكر “عنترة” دون الإشارة إلى حبِّه الشديد لابنة عمَّه “عبلة”، إذ كانت محور أشعاره، ومصدر إلهامه، وعلى الرَّغم من ذلك منعه عمَّه من الزواج منها، إلَّا أنَّه لم يمتنع عن ذكرها في قصائده.
لُقِّبَ بـ “عنترة الفلحاء”؛ نسبةً إلى تشقُّق شفتيه، وتعرَّض لتجربة قاسية في صغره عندما نفاه والده، وهدَّدوه بالقتل؛ بسبب اتهامات بالنيل من كرامة امرأة كانت متزوِّجة من والده، وأرادوا قتله لولا شفاعة أبيه، ويُروى أيضاً أنَّ والده جعله راعياً للإبل، فآلمت هذه الإهانة نفسه كثيراً، ولكنَّه عاد ليستلحقه بنسبه يوم قام الطائيين بغارات على عشيرة “عنترة”، فطلب والده منه الدفاع عنه وعن الرزق ضد الأعداء، قائلاً (كُرَّ يا عنترة على الأعداء!) فأجابه “عنترة” بألم ومرارة: “العبد لا يحسن الكرَّ، فهو لا يُحسِن إلا الحلاب”، فقال أبوه: “كرَّ وأنت حرٌّ”، فكرَّ وخلَّصَ الإبل منهم، وأنقذ أباه من الخطر المحتم؛ لذا بلغ مراتب الشهرة.
يتميَّز شعر “عنترة” بعذوبة فائقة في الأسلوب، ورقَّة متناهية في الألفاظ، وهذا يجعله يندرج في قائمة أقرب الشعراء في الجاهلية إلى أسلوبنا الحديث، واشتهر غزله بنقاء العواطف وعفَّتها، إضافةً إلى أنَّه كان من بين أكثر الجاهليين جرأة في وصف البطولة والحماسة، وكان يصف المعارك والحروب بدقَّة فائقة، ويتفنَّن في وصف أدقِّ تفاصيل الطعن والاشتباكات.
كان “عنترة” أشدَّ أهل زمانه، وأجودهم بما استطاع، وقد شهد حرب “داحس والغبراء”، وكان لا يقول الشعر إلا البيتين أو الثلاث، إلى أن سبَّه رجلٌ من “بني عبس”، فذكر سواده، وسواد اُمِّه و أخوته، وعيَّره بذلك، فقال “عنترة” قصيدته المعلَّقة التي تُسمَّى بـ “المذهَّبة”، وهي على البحر الكامل، وقافيتها “الميم المكسورة”، وتتألَّف من 80 بيتاً، منهم 5 في الأطلال، و4 في بُعد الحبيبة، و3 في موكب الرحلة، و9 في وصف الحبيبة، و13 في وصف الناقة، و46 في الفخر الشخصي.
يقول في معلَّقته:
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
فَوَقَفتُ فيها ناقَتي وَكَأَنَّها
فَدَنٌ لِأَقضِيَ حاجَةَ المُتَلَوِّمِ
وَتَحُلُّ عَبلَةُ بِالجَواءِ وَأَهلُنا
بِالحَزنِ فَالصَمّانِ فَالمُتَثَلَّمِ
حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهدُهُ
أَقوى وَأَقفَرَ بَعدَ أُمِّ الهَيثَمِ
5. “طَرفة بن العبد”
يُعدُّ “طَرفة بن العبد” أحد أبرز شعراء المعلَّقات في العصر الجاهلي، وُلِد في سنة 539 ميلادية، وكان أصغر الشعراء سنَّاً، ولكنَّه كتب قصائد تميَّزت بالفصاحة والجمال، وهذا جعله يتفوَّق على غيره من الشعراء، وتربَّى “طَرفة بن العبد” في بيئة شعريَّة، فكانت عائلته غنيَّة بالشعراء والأدباء، وفقد والده في سنٍّ مبكِّرة، وكان سريع التأثُّر بالتجارب التي يمرُّ بها في حياته.
تميَّز شعر “طَرفة بن العبد” بالبساطة والجمال، وكان يعبِّر في قصائده عن مختلف جوانب الحياة والمجتمع، ومن ذلك الموت والحياة، والفخر والحماسة، كما اشتهر بشعر الهجاء والحكمة، ويُعدُّ “طَرفة بن العبد” أشعر الشعراء بعد “امرئ القيس”، ومات وهو ابن ستة وعشرين عاماً، فقد قُتِلَ؛ بسبب هجائه “عمرو بن هند” و”قابوس” أخيه.
تبدأ مُعلّّقة “طَرفة” المؤلَّفة من 104 بيت بالمقدِّمة الآتية:
لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ
تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم
يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ
كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً
خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ
عَدَوليَّةٌ أَو مِن سَفينِ اِبنِ يامِنٍ
يَجورُ بِها المَلَّاحُ طَوراً وَيَهتَدي
يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيزومُها
بِها كَما قَسَمَ التُربَ المُفايِلُ بِاليَدِ
شاهد بالفديو: أشهر الكتاب والأدباء العرب ومؤلفاتهم
6. “عمرو بن كلثوم”
هو “عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتَّاب التغلبي” أحد أشهر شعراء العرب، وأعرقهم نسباً ورفعة وفصاحة، وُلِد “عمرو بن كلثوم” في بيت سيادة، وعُرِف بالعزَّة والشجاعة منذ صغره، فهو ينتمي إلى قبيلة “تغلب”، وكان فارساً مشهوراً من فرسان العرب، وورث من أبيه “كلثوم بن مالك” مهاراته في الشعر والجرأة والفصاحة، وأصبح يُشكِّل رمزاً للشجاعة والفصاحة في قبيلته، وفي القبائل العربية الجاهليَّة.
شهدت حياة “عمرو بن كلثوم” عدَّة مواقف هامَّة أثَّرَت في تاريخ العرب، وأبرزها قصيدته المعلَّقة التي اشتهر بها، والتي قالها بعد قتله لملك المناذرة “عمرو بن هند”؛ انتصاراً لأمِّه، وكانت هذه المعلَّقة تعبيراً عن فخره وشموخه بعد تحقيق الانتصار على أعدائه، وأصبحت شاهدة على شجاعته وعزمه، وتُوفي “عمرو بن كلثوم” بعد أن عمَّر كثيراً، ويُقال إنَّه عاش حتى سنِّ الـ 150 عاماً، ثمَّ أسره “يزيد بن عمرو”، فامتنع عن شرب الماء حتى توفي.
يقول في معلَّقته:
ألَّا هُبِّي بِصَحْنِكِ فاصْبَحِيْنا
وَلا تُبْقِي خُمُوْرَ الأَنْدَريْنَا
مُشَعْشَةً كأنَّ الحُصَّ فِيها
إِذا مَا المَاءَ خالَطها سَخِيْنا
تَجُورُ بِذي اللَّبَانَة عنْ هَواهُ
إِذا مَا ذَاقَها حتى يَلينَا
ترى اللَّحِزَ الشَّحيحَ إذا
أُمِرَّتْ عَليه لمالهِ فِيها مُهِينا
صَبِنتِ الكأسَ عنَّا أمَّ عمرٍو
وكان الكأسُ مَجراها اليَمينا
وما شَرُّ الثلاثةِ أُمَّ عمرٍو
بصاحِبكِ الذي لا تَصْبحينا
وكأسٍ قد شَربتُ ببعلبكٍّ
وأُخرى في دِمشقَ وقاصرِيْنا
وإنَّا سوفَ تُدرِكُنا المَنايا
مُقدَّرةً لنا ومُقدِّرِيْنا
7. “الحارث بن حلزة اليشكري”
ينتمي “الحارث بن حلزة اليشكري” إلى قبيلة “بكر بن وائل” من بدو العراق، وقد كان من أكثر الناس فخراً بقومه، وُلِد “الحارث بن حلزة” في عام 430 م، وبحسب بعض المؤرِّخين فإنَّه عاش حياةً طويلةً، حتى وفاته في حوالي العام 580م، وبلغ عمره يوم وفاته 150 عاماً.
عُرِف بأخلاقه النبيلة، وشجاعته في الميدان، إضافةً إلى حنكته وذكائه الفذَّين، وكان يتمتَّع بمهارات الخطابة الراقية، والقدرة على إبهار الحاضرين بشعره الجميل وأفكاره العميقة، وقد أثبت ذلك في عدَّة قصائد، لا سيَّما في معلَّقته الشهيرة.
تُعدُّ مواجهته للشاعر “عمرو بن كلثوم” في قصر الملك “عمرو بن هند” من أبرز الأحداث في حياة “الحارث بن حلزة”، فيُروى أنَّ “الحارث” كان يعاني من مرض البرص، ومن العادات أنَّ الأبرص يُنشد أمام الملك واقفاً خلف سبعة أستار، ومن ثمَّ يُغسَل أثره بالماء، وقد أنشد قصيدته بهذه الشروط، وألقاها بأسلوب مبهر أمام الملك وفق تلك الشروط، وكانت غاية “الحارث” من قصيدته الدفاع عن قبيلته، وتكذيب الشاعر الآخر “عمرو بن كلثوم”، فاستطاع التأثير في الملك بشعره، وأمر الملك برفع الأستار، وأطعم “الحارث” من وعائه، ومنع غسل أثره بالماء بعد أن يذهب.
تضم معلَّقة الحارث 85 بيتاً، ويقول فيها:
آَذَنَتنا بِبَينِها أَسماءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنهُ الثَواءُ
آَذَنَتنا بِبَينِها ثُمَّ وَلَّت
لَيتَ شِعري مَتى يَكونُ اللِقاءُ
بَعدَ عَهدٍ لَها بِبُرقَةِ شَمَّاءَ
فَأَدنى ديارَها الخَلصَاءُ
فَمَحيَّاةٌ فَالصَفاحُ فَأَعلى
ذي فِتاقٍ فَغَاذِبٌ فَالوَفاءُ
فَرياضُ القَطا فَأَودِيَةُ
الشُربُبِ فَالشُعبَتانِ فَالأَبلاءُ
في الختام:
تبقى المعلَّقات أو المذهَّبات أجمل ما نسجه الشعراء العرب على مرِّ العصور، فقد أضاف شعراء المعلَّقات السبع كثيراً من المعاني إلى تراث الشعر العربي القديم بأعمالهم، وكانت معلَّقاتهم مرآة عصرهم، فأظهرَت قيَم وتقاليد المجتمع العربي في العصور الجاهلية، وكان لكلِّ شاعرٍ من هؤلاء العظماء مكانته ودوره الخاص في تاريخ الشعر، سواء بتجسيد قصص البطولة والشجاعة كما فعل “عنترة بن شدَّاد”، أم بتعبيره عن الحبِّ والغزل كما فعل “زهير بن أبي سُلمى”، أم بتقديم الانتقاد الاجتماعي كما فعل “امرؤ القيس” و”طَرفة بن العبد”، وتوجد وراء كل معلَّقة قصَّة مثيرة، كما في حالة “الحارث بن حلزة” الذي تحدَّى “عمرو بن كلثوم”، وكسر العادات التي كانت سائدة؛ بفضل مهاراته الشعرية.