قصيدة البردة لكعب بن زهير
التعريف بقصيدة البُردة (بانت سعاد):
تُعرَف قصيدة البُردة باسمين: “بانت سعاد”: وهو الاسم الذي يبدأ به البيت الأول من القصيدة، و”البُردة”: نسبة إلى بردة النبي التي خلعها على كعب بن زهير تكريماً له بعد إنشاده القصيدة.
مؤلِّف قصيدة البُردة هو الشاعر كعب بن زهير، أحد شعراء الطبقة الأولى في الإسلام، وقصيدة البُردة لكعب بن زهير هي تحفة أدبية خالدة، تُجسد قصة إيمان وتوبة، وتُنسج خيوطها من الشعر الجميل والمشاعر الصادقة؛ إنَّها رحلة بدأت بهجاء كعب بن زهير للرسول، وانتهت بمدحٍ خالٍد؛ حكاية بطلها الشاعر كعب بن زهير.
مناسبة قصيدة البردة:
كان كعب بن زهير من أشدِّ مُعارضي الإسلام في بداية حياته، فهجا الرسول في قصائد ساخرة، ولكن هُدِي بعد ذلك للإسلام، فسار إلى المدينة المنورة عام 8 هـ متخفياً، باحثاً عن عفو النبي، وفي مجلس الرسول، أنشد كعب قصيدته “بانت سعاد”، التي عُرِفت لاحقاً باسم “البُردة”.
جاء كعب بن زهير إلى المدينة مسلماً متخفياً، راغباً في التوبة من هجائه، فكانت مناسبة القصيدة بعد أن حصل هجاء كعب بن زهير للرسول، ونال كعب بن زهير عفو النبي بعد إنشاده القصيدة، فخلع عليه بردته تكريماً له، ومن هنا اشتهرت قصيدة كعب بن زهير في مدح الرسول.
أبيات قصيدة البُردة:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفد مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا
إِلَّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً
لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت
كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ
شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ
صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ
تَجلو الرِياحُ القَذى عَنُه وَأَفرَطَهُ
مِن صَوبِ سارِيَةٍ بيضٍ يَعاليلُ
يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت
ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ
لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها
فَجعٌ وَوَلعٌ وَإِخلافٌ وَتَبديلُ
فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها
كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ
وَما تمسكُ بِالوَصلِ الَّذي زَعَمَت
إِلَّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلاً
وَما مَواعيدُها إِلَّا الأَباطيلُ
أَرجو وَآمُلُ أَن يَعجَلنَ في أَبَدٍ
وما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ
فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت
إِنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ
أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها
إِلَّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ
وَلَن يُبَلِّغها إِلا عُذافِرَةٌ
فيها عَلى الأَينِ إِرقالٌ وَتَبغيلُ
مِن كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِفرى إِذا عَرِقَت
عُرضَتُها طامِسُ الأَعلامِ مَجهولُ
تَرمي الغُيوبَ بِعَينَي مُفرَدٍ لَهَقٍ
إِذا تَوَقَدَتِ الحُزَّانُ وَالميلُ
ضَخمٌ مُقَلَّدُها فَعَمٌ مُقَيَّدُها
في خَلقِها عَن بَناتِ الفَحلِ تَفضيلُ
حَرفٌ أَخوها أَبوها مِن مُهَجَّنَةٍ
وَعَمُّها خَالُها قَوداءُ شِمليلُ
يَمشي القُرادُ عَلَيها ثُمَّ يُزلِقُهُ
مِنها لَبانٌ وَأَقرابٌ زَهاليلُ
عَيرانَةٌ قُذِفَت في اللَحمِ عَن عُرُضٍ
مِرفَقُها عَن بَناتِ الزورِ مَفتولُ
كَأَنَّ ما فاتَ عَينَيها وَمَذبَحَها
مِن خَطمِها وَمِن اللَحيَينِ بَرطيلُ
تَمُرُّ مِثلَ عَسيبِ النَخلِ ذا خُصَلٍ
في غارِزٍ لَم تَخَوَّنَهُ الأَحاليلُ
قَنواءُ في حُرَّتَيها لِلبَصيرِ بِها
عِتقٌ مُبينٌ وَفي الخَدَّينِ تَسهيلُ
تَخدي عَلى يَسَراتٍ وَهيَ لاحِقَةٌ
ذَوابِلٌ وَقعُهُنُّ الأَرضَ تَحليلُ
سُمرُ العُجاياتِ يَترُكنَ الحَصى زِيَماً
لَم يَقِهِنَّ رُؤوسَ الأُكُمِ تَنعيلُ
يَوماً يَظَلُّ بِهِ الحَرباءُ مُصطَخِماً
كَأَنَّ ضاحِيَهُ بِالنارِ مَملولُ
كَأَنَّ أَوبَ ذِراعَيها وَقَد عَرِقَت
وَقَد تَلَفَّعَ بِالقورِ العَساقيلُ
وَقالَ لِلقَومِ حاديهِم وَقَد جَعَلَت
وُرقُ الجَنادِبِ يَركُضنَ الحَصى قيلوا
شَدَّ النهارُ ذِراعاً عَيطلٍ نَصَفٍ
قامَت فَجاوَبَها نُكدٌ مَثاكيلُ
نَوَّاحَةٌ رَخوَةُ الضَبعَين لَيسَ لَها
لَمَّا نَعى بِكرَها الناعونَ مَعقولُ
تَفِري اللِبانَ بِكَفَّيها وَمِدرَعِها
مُشَقَّقٌ عَن تَراقيها رَعابيلُ
يَسعى الوُشاةُ بِجَنبَيها وَقَولُهُم
إِنَّكَ يَا بنَ أَبي سُلمى لَمَقتولُ
وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ
لا أُلفِيَنَّكَ إِنِّي عَنكَ مَشغول
فَقُلتُ خَلُّوا طَريقي لا أَبا لَكُمُ
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ
يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني
وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ ال
قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
لا تَأَخُذَنِّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم
أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنِّي الأَقاويلُ
لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ
أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ
لَظَلَّ يُرعَدُ إِلَّا أَن يَكونَ لَهُ
مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ
ما زِلتُ أَقتَطِعُ البَيداءَ مُدَّرِعاً
جُنحَ الظَلامِ وَثَوبُ اللَيلِ مَسبولُ
حَتَّى وَضَعتُ يَميني لا أُنازِعُهُ
في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قيلُهُ القيلُ
لَذاكَ أَهَيبُ عِندي إِذ أُكَلِّمُهُ
وَقيلَ إِنَّكَ مَسبورٌ وَمَسؤولُ
مِن ضَيغَمٍ مِن ضِراءَ الأُسدِ مُخدِرَةً
بِبَطنِ عَثَّرَ غيلٌ دونَهُ غيلُ
يَغدو فَيَلحَمُ ضِرغامَين عَيشُهُما
لَحمٌ مِنَ القَومِ مَعفورٌ خَراذيلُ
إذا يُساوِرُ قِرناً لا يَحِلُّ لَهُ
أَن يَترُكَ القِرنَ إِلَّا وَهُوَ مَفلولُ
مِنهُ تَظَلُّ حَميرُ الوَحشِ ضامِرَةً
وَلا تُمَشي بِواديهِ الأَراجيلُ
وَلا يَزالُ بِواديِهِ أخَو ثِقَةٍ
مُطَرَّحُ البَزِّ وَالدَرسانِ مَأكولُ
إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم
بِبَطنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسَلَموا زولوا
زَالوا فَما زالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ
عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ
شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ
مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
بيضٌ سَوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ
كَأَنَّها حَلَقُ القَفعاءِ مَجدولُ
يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم
ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ
لا يَفرَحونَ إِذا نالَت رِماحُهُمُ
قَوماً وَلَيسوا مَجازيعاً إِذا نيلوا
لا يَقَعُ الطَعنُ إِلَّا في نُحورِهِمُ
ما إِن لَهُم عَن حِياضِ المَوتِ تَهليلُ
شرح قصيدة البردة:
1. الأبيات العشرة الأولى:
في قصيدة البردة لكعب بن زهير، يصف الشاعر لنا ماذا فعل فراق سعاد به فصار مثل أسير مكسور القلب، ثم ينتقل بالبيت الثاني ليتغزل بجمال سعاد فيشبه عينيها بعيني الغزال، في البيت الثالث يتعمق أكثر في وصف محاسنها، فيراها مشرقة للحياة، ومعتدلة الطول، وفي البيت الرابع من قصيدة البردة لكعب بن زهير، ينتقل الشاعر ليصف طيف ابتسامة يتسلل من ثغرها، بأنَّه يزيل الهم ورائحته زكية.
أما في البيت الخامس من قصيدة كعب بن زهير في مدح الرسول، فيوضح الخصال الكريمة لسعاد كالكرم، ولكن ما يعيبها التخلي عن الوعود وعدم تقبل النصيحة من أحد، فإخلاف الوعد كالغربال الذي لا يتشبث بالماء هكذا هي، ثم يقول الشاعر لا تغتر بكلامها المنمق فكل ما تعدُك به يذهب مع الريح.
2. الجزء الثاني من القصيدة:
في قصيدة البردة لكعب بن زهير، يشبه الشاعر إخلاف سعاد في المواعيد مثل العرقوب، ثم يحلم الشاعر بوصالها وأن يلمح طيف خيالها، ويؤكد بأنَّ اللقاء مستحيل؛ لأنَّ سعاد قد رحلت ولا يمكنه الوصول إليها.
بمعزل عن هجاء كعب بن زهير للرسول، يتأمل الشاعر شكل الناقة التي يمكن أن تحمله لسعاد، ويقول إنَّها يجب أن تكون ضخمة وكبيرة وسريعة المشي وينزل العرق من خلف أذنيها، ويكمل وصف الناقة بأنَّ لها قدرة على رؤية أشياء لا يراها غيرها، ولها عنق ضخم مرتفعة القوائم سريعة تتحمل الأوزان.
3. الجزء الثالث من القصيدة:
يُشبِّه الشاعرُ الناقة “حرف” بكون عمها وخالها من أصحاب المكانة الرفيعة والقوام الممشوق، ويُشبِّه الشاعرُ سعاد “عَيرانَة” بجمالٍ ساحرٍ يضرب به المثل، وهذا يدل على شدَّة إشراقها وجاذبيتها، وما تبقى من جمالها على أنفها وخدَّيها يُمكن أن تعبأ به أوعية كبيرة، تتحرَّك سعاد بِرِشاقةٍ فائقةٍ تُشبه حركة عسيب النخل ذي الخيوط المتدلية، وقامة طويلة كالقصب.
كما توسع بوصف سعاد فقال إنَّ لها وَجْهاً نَاصِعَ البياضِ وخَدَّين ناعِمَين خالِيَين مِنْ التَّجاعيدِ، تتحرَّك سعاد بِرِشاقةٍ على أطرافِ أصابعِها، ثم يأتي بشطر من البيت يصف فيه مشهد سماع سعاد خبر موت ابنتها وتبدأ حالتها النفسية بالتَّردِّي.
4. الجزء الرابع والأخير من القصيدة:
في صلب قصيدة البردة لكعب بن زهير، يطلب الشاعر من الناس التخلِّي عنه، رافضاً أيَّة مساعدة، ومؤمناً بالله، وبأنَّ الموت لا مردَّ له، ويقول إنَّه عَلِمَ أنَّ رسول الله قد هدده فطلب منه العفو، ولكن الهداية من الله، حتى إنَّه يصف الطقس ويقول إنَّ الرعد لا يهدأ إلا عندما يأذن رسول الله بينما يقطع الصحراء.
يقول: حتى وضعت يدي بيد صاحب النقمة، وخاطبته بخوف، من قطعة لحم مخدرة ببطن عثار، غيل دون غيل يأكل ما يقتاتونه فيلصقهما على شكل ضرغامين، ولا يجوز له أن يترك القرن وهو مقطوع، وما يزال في واديه أخو ثقة وهو ممدد ودرسه مأكول، وقال قوم من قريش إنَّه في مكانة هناك بعدما أسلموا زالوا، سرابيلهم بيضاء في المعارك، يمشون مشية الإبل الزاهية، ودوماً ما تصاب صدورهم بالطعن، فولدت هذه القصيدة بعد هجاء كعب بن زهير للرسول.
في الختام:
إنَّ قصيدة البردة لكعب بن زهير لها مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي والأدبي، وقد كُتِبَت قصيدة كعب بن زهير في مدح الرسول بوصفها تذكيراً بأهمية طلب شفاعة النبي والسعي إلى الاقتداء بفضائله في حياتنا اليومية، ومن خلال جمالها وبلاغتها، تستمر البردة في إلهام ورفعة كل مَن يقرؤها، وتبقى تحفة خالدة من روائع الشعر.
تعد قصيدة البردة لكعب بن زهير أيضاً عملاً أدبياً هاماً، يبرز جمال اللغة العربية وغناها ويبين مهارة وموهبة كعب بن زهير بصفته شاعراً، فقد دُرِسَت القصيدة وحُلِّلَت من قبل العلماء والشعراء على حدٍّ سواء، وهي ما تزال تلهم القراء وتأسرهم بصورها القوية وعواطفها الصادقة.