التدريس والتعلم

التجربة المحرمة – الحرمان اللغوي


لقد وُلدنا ولدينا القدرة على التعلم، لكن هل نتعلم من الآخرين أم منا نحن؟ ما هي اللغة التي يتحدث بها الطفل عندما لا يوجد بالغون من حوله؟ وماذا يحدث لتلك القدرة؟

بقدر ما يمكن لأي شخص أن يقول، فإنَّ الطفل في طور النمو لديه نافذة ضيقة إلى حدٍّ ما لإتقان الكلام، فإن فوَّت فرصته في الطفولة فقد لا يتحدث بعدها أبداً، ولقد رأينا أمثلة لأطفال على مر السنين؛ أطفال متوحشون نشؤوا في الغابة دون لغة بشرية، كما أنَّهم جميعاً يجدون صعوبة في التقاطها لاحقاً في حياتهم.

كيف لنا أن نعرف على وجه اليقين؟ وكيف نعرف أنَّه لا توجد طريقة أساسية افتراضية للتحدث؟

في القرن الثالث عشر، خلف أسوار قصره الفاخر المقبب، فقد إمبراطور عظيم النوم بسبب هذا اللغز، وفي عمق مكتبته الأسطورية كان سيبتكر طريقة لاكتشاف مرة وإلى الأبد ما هي اللغة الافتراضية للبشرية، تجربة مروعة مثل تجربة “جوزيف مينجيل” أو دكتور “فرانكشتاين”.

التجربة المحرمة:

هذه تجربة تتضمن أخذ مولود جديد منذ ولادته وحبسه في غرفة وحرمان الطفل من أي شكل من أشكال التواصل أو التفاعل البشري. من حيث الجوهر؛ فإنَّ التجربة بالنسبة إلى أي شخص لديه جزء قليل من الإنسانية هي تجربة شريرة تقوم على اختبار كيفية تطور الطفل والتواصل عند حرمانه من التفاعلات الاجتماعية واللغة المعتادة، وبعد ذلك يتم السماح للطفل بالخروج من البيئة الخاضعة للرقابة ليرى كيف يتواصل.

بالنسبة إلى الكثيرين يعد هذا شكلاً من أشكال الإساءة، ومع ذلك كان النظر في قضايا اللغة التي أُثيرت أمراً رائعاً.

من الواضح أنَّ هذه التجربة تأخذنا إلى العوالم المقلقة إلى حدٍّ ما لكيفية تطويرنا للغة بصفتنا بشراً، وكيف نتواصل إذا لم نتمكن من التحدث، إضافة إلى ذلك كان السؤال الرئيس المطروح هو “ما هي أنقى لغة؟ وما هي اللغة الأولى التي تحدَّث بها الناس الأوائل على الأرض؟ وهل الطفل الذي حُرم من جميع أشكال التواصل واللغة سيتحدث هذه اللغة النقية؟”.

مع ذلك هل من الأخلاقي بأي شكل من الأشكال حرمان الطفل من القدرة على التواصل؟ بالتأكيد هذا هو الطريق إلى الظلام ويأخذنا إلى عوالم “تأدية دور الله والعياذ بالله”.

مدهش العالم (Stupor mundi):

كان الإمبراطور المعني هو الإمبراطور الروماني المقدس “فريدريك الثاني” الذي توج نفسه بيده عام 1194-1250، وقد كان “فريدريك” واحداً من أعظم الشخصيات في العصور الوسطى العليا، والمعروف لدى المعجبين به باسم “مدهش العالم” أو أعجوبة العالم.

حصل على اللقب من ناحية والده، وكان “فريدريك” من أبناء “هوهنشتاوفن”، وهو عضو في الأسرة الألمانية المحاربة التي سيطرت على جزء كبير من “ألمانيا” و”إيطاليا” الحديثة، وكان “بربروسا” الأسطوري جده، ومن جانب والدته كان عضواً في الطبقة الأرستقراطية النورماندية في “جزيرة صقلية”.

يبدو أنَّ “فريدريك” شعر بأنَّه صقلي أكثر من أي شيء آخر؛ إذ جعل منزله في “باليرمو” وبلاطه على الطراز الإسلامي. في الواقع كان “فريدريك” حاكماً متسامحاً يحمي الأقليات اليهودية والمسلمة في “صقلية”، ولقد اعتمد على هذه المجتمعات في الكتب لإرضاء فضوله الذي لا يلين عن العالم، كما كان على صلة بشعراء مشهورين، وما زالت الجامعة التي أسسها في “نابولي” تسمى “فيديريكو الثاني”.

بعيداً عن المنزل، كان “فريدريك” محتقراً؛ إذ يبدو أنَّه استحق سمعته في القسوة والشهوة، وبعد طرده من قِبل البابا ومطاردته من قِبل أعدائه، تكمن شهرته الدائمة في أعمال “دانتي” الذي حكم على الإمبراطور بالجحيم بعدِّه ملحداً.

تلميذ شاحب في فنون محظورة:

كان لدى “فريدريك” عقل لا يهدأ، فقد كتب أطروحة شهيرة عن الطيور، وأسس محميات للحياة البرية مثل “ثيودور روزفلت” في العصور الوسطى، وتعلم عدداً من اللغات، لكن كما ذكرت (History Answers)، فإنَّ هذا الفضول كان له صبغة سادية، فقد كتب راهب يدعى “ساليمبيني” – عاش في عهد “فريدريك” – كتاباً كاملاً يسمى “الكارثة الاثنا عشر للإمبراطور فريدريك الثاني” لتسليط الضوء على التجاوزات الشاذة لعقل الإمبراطور، ولقد كان جزئياً عملاً دعائياً لتشويه سمعة عدو البابا، ولكنَّ هذا لا يعني بالضرورة أنَّ نوادره خاطئة.

على سبيل المثال يروي “ساليمبيني” أنَّ “فريدريك” كان لديه سجين محشو في برميل يتضور جوعاً، وفي البرميل كان هناك ثقب راقب من خلاله الإمبراطور الموت البطيء للرجل بعين عالم نزيهة، وكان الهدف هو معرفة ما إذا كانت الروح قد خرجت من الجسد عند الموت.

في رواية أخرى تغلب على الإمبراطور فضول بشأن تأثير التمرينات في الهضم، فأمر رجلين بتناول نفس الوجبة – ذهب أحدهما إلى الفراش بعد العشاء، وخرج الآخر إلى الصيد – وبعد بضع ساعات قام بنزع أحشاء الرجلين وفحص الطعام في بطنيهما بعناية بحثاً عن الاختلافات.

من أفواه الأطفال:

لكنَّ أسوأ تجربة سجلها “سالمبيني” كانت محاولة اكتشاف لغة الإنسان الأصلية، فكانت اللغة ممتعة للإمبراطور الذي قيل إنَّه تحدث خمس لغات بطلاقة – اللاتينية واللهجة الصقلية والألمانية والفرنسية والعربية – وفقاً لمتحف “كاستل ديل مونتي”، وكل أفراح “فريدريك” تميل إلى الانحراف، وإذا كانت القصة صحيحة، فقد ابتكر تجربة وحشية ليرى ما سيتحدثه الأطفال إذا نشؤوا دون لغة الآخرين.

إقرأ أيضاً: تأخر النطق عند الطفل: الأسباب والعلاج

يكتب “سالمبيني” أنَّ “فريدريك” أمر بتربية عدد من الأطفال حديثي الولادة تماماً دون كلام، فيمكن لممرضاتهم إطعامهم وتغسيلهم، لكن لا ينطقون بكلمة واحدة ولا يتفاعلون معهم إلا عند الضرورة القصوى، ثم تمت مراقبة الأطفال ليلاً ونهاراً في حالة نطقهم بكلمة، واعتقد أنَّه عاجلاً أم آجلاً سيبدؤون بالكلام وسيتم إعادة إنشاء اللغة المحكية في جنة عدن؛ لذا يتطلب الأمر رجلاً بارداً للتفكير بجدية في هذا النوع من التجارب، فقد مات جميع الأطفال دون أن ينطقوا بكلمة واحدة وهم يبكون بلا عزاء في زنازينهم.

شاهد بالفيديو: كيف تشجّع طفلك على النطق

 

حقيقة أم خرافة؟

مرعب، لكن هل هذا صحيح؟ تلاحظ (History Answers) أنَّ “سالمبيني” من ناحية لم يكن لديه اتصال يذكر بالإمبراطور، كما أنَّه ليس لديه نقص في الدوافع لنسج قصص مرعبة، وكانت “إيطاليا” في ذلك الوقت تمزقها سلسلة من الحروب الأهلية بين طرفين؛ الأول يسمى بالـ (Guelphs)؛ الذين أرادوا أن يتمتع البابا بالسلطة النهائية على الإمبراطور الروماني المقدس، والـ (Ghibellines)؛ الذين اعتقدوا أنَّه لا ينبغي أن يكون للبابا دور في السياسة.

كان “فريدريك” متقلب المزاج، ومما لا شك فيه كان لديه العديد من الأطفال غير الشرعيين، وكان يعاني من سلسلة مقلقة من جنون العظمة، فقد ذهب إلى حد تشجيع الناس على مقارنته بيسوع المسيح عندما ذهب إلى القدس خلال الحملة الصليبية السادسة، ووفقاً لعلم النفس اليوم فإنَّ “الثالوث المظلم” لسمات الشخصية هو النرجسية والميكيافيلية والاعتلال النفسي، وقد أظهر “فريدريك” بالتأكيد العلامتين الأوليتين، وإذا كان “سالمبيني” يقول الحقيقة أو نسخة من الحقيقة، فسيكون طبيعياً أن نطلق عليه اسم مختل عقلي.

العلم والوحشية:

ما يزال معجبو “فريدريك” العصريون ينظرون إليه على أنَّه “مدهش العالم”، وهو عبقري يسبق عصره بمئات السنين، فمن الصعب التوفيق بين تألق الرجل الواضح مع انحلاله الأخلاقي، لكن بطريقة ما فإنَّ نموذج “فريدريك” للمعرفة غير المربوطة بالحكمة سوف يعيد نفسه مراراً وتكراراً، وبعد فترة طويلة من انتهاء تجارب “فريدريك” الكابوسية، حذَّر الأدب الشعبي من أنَّ العلم ليس له بوصلة أخلاقية خاصة به ويمكن بسهولة تحويله إلى شر.

تحكي أسطورة “فاوست” في القرن السابع عشر عن رجل باع روحه للشيطان مقابل معرفة غير محدودة؛ ففي رواية “جوته” الشهيرة يتسبب “فاوست” في كل أنواع البؤس البشري من خلال تهوره، بما في ذلك وأد الأطفال، وفي رواية “ماري شيلي” عام 1818 روى “فرانكشتاين” حكاية مشابهة وطرح السؤال الآتي: “حتى لو استطعت أن تؤدي دور الله وتحيي الأموات، فهل يجب عليك ذلك؟”.

في الختام:

قلدت الحياة الفن في القرن العشرين عندما أجرى العلماء تجارب قاسية بشكل لا يُصدَّق مثل تجربة “توسكيجي”، كما في حالة أطباء معسكرات الاعتقال النازية مثل “جوزيف مينجيل” كانت القسوة هي الهدف، ولكنَّ التجارب الأخرى كانت غير نزيهة وبدم بارد وغير مجدية مثل تجربة “فريدريك”، والسؤال هنا “ما هو الهدف من وراء إنشاء كلب برأسين عانى بشدة لبقية حياته القصيرة؟”، فإحدى الأخلاقيات التي قد تؤخذ من تجربة “فريدريك” اللغوية هو أنَّه لا توجد لغة فطرية يُخلق بها الإنسان، كما لا يوجد أي جدار صلب بين العلم والشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى