التدريس والتعلم

ما هو الشك ولماذا يعتبر أساس البحث العلمي؟


سوف نتعمق في هذا المقال في الطبيعة متعددة الأوجه للشك، ونستكشف سبب عَدِّه حجر الأساس للبحث العلمي؛ وذلك من جذوره التاريخية في تحدي العقائد القديمة إلى أهميته المعاصرة في دفع الاكتشافات المتطورة، وسنكشف عن العلاقة المقنعة بين الشك، والمنهج العلمي؛ لذا انضم إلينا في رحلة لفهم كيفية دفع الشك والفضول، وسعي البشرية إلى المعرفة والابتكار على مر العصور.

ما هو مفهوم الشك؟

الشك هو حالة من عدم اليقين، أو عدم الاقتناع بشأن اعتقاد أو قرار أو اقتراح، فهو جانب أساسي من الإدراك البشري والتفكير النقدي؛ لأنَّه يشجعنا على التساؤل والتحقيق وتقييم المعلومات أو الأفكار قبل تكوين الاستنتاجات، ويمكن أن يكون الشك استجابة صحية وعقلانية عند طلب المعرفة أو اتخاذ الخيارات؛ لأنَّه يدفعنا إلى التمعن في وجهات نظر مختلفة وجمع مزيد من المعلومات؛ لاتخاذ قرارات مستنيرة؛ لذا لا بد من الفهم العميق لمعنى الشك وآثاره في المجال العلمي.

الشك أساس الثورة الصناعية:

لقد كانت الثورة الصناعية الأوروبية التي امتدت من أواخر القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر مبنية بشكل أو بآخر على مفهوم الشك الذي أدى إلى كثير من الابتكارات التكنولوجية والتحضُّر والتحولات الاقتصادية؛ لذلك يمكن النظر إلى الشك بالمعنى الأوسع بوصفه خلفية أساسية لهذا العصر من التغيير غير المسبوق.

لقد تسلل الشك إلى أذهان الأفراد والمجتمعات، مع تحول العالم من الاقتصادات الزراعية إلى الاقتصادات الصناعية، وبدأ الناس يتساءلون عن الأساليب التقليدية للإنتاج والنقل ومصادر الطاقة، وقد غُذِّيت هذه الشكوك حتى أدت إلى السعي الدؤوب لتحسين الأساليب والتقنيات، ولقد تجرَّأ المبتكرون ورجال الأعمال على الشك في الوضع الراهن، وتصوروا طرائق جديدة وأكثر كفاءة للقيام بالأشياء، وكانت ثقافة التساؤل والتجربة ودفع الحدود حافزاً حاسماً للثورة الصناعية، وأصبح الشك الذي اتخذ شكل التفكير النقدي والفضول قوة دافعة وراء تحول المجتمعات الأوروبية، ودَفَعها إلى عصر التصنيع والنمو الاقتصادي والتغيير الاجتماعي.

الشك الذي دفع جاليليو إلى الاكتشاف:

يعد نزاع “جاليليو جاليلي” مع الكنيسة حدثاً تاريخياً مشهوراً يؤكد صراع العلم والشك مع المعتقدات الدينية السائدة في عصره، ففي أوائل القرن السابع عشر بدأ العالم الإيطالي “جاليليو” ملاحظاته الفلكية باستخدام التلسكوب، وتحدَّتْ ملاحظاته أنموذج مركزية الأرض للكون الذي وضع الأرض في المركز.

أشار “جاليليو” إلى أنموذج مركزية الشمس الذي اقترحه “كوبرنيكوس”، والذي يقرُّ بأنَّ الأرض هي التي تدور حول الشمس، وقدم عمل “جاليليو” الرائد أدلة دامغة على نظرية مركزية الشمس؛ لكنَّه تناقض بشكل مباشر مع عقيدة مركزية الأرض للكنيسة الكاثوليكية.

أدى الشك دوراً هاماً في عمل “جاليليو”، فرغبته في التشكيك في المعتقدات المقبولة في عصره قادته إلى مراقبة الأجرام السماوية، مثل مراحل كوكب الزهرة وأقمار المشتري، وقدمتْ هذه الملاحظات أدلة تجريبية في نموذج مركزية الشمس، وأدَّتْ إلى نشره لكتاب “Sidereus Nuncius” في عام 1610، والذي أثار ضجة في الأوساط العلمية والدينية.

عندما أصبحت اكتشافاته معروفة عدَّتها الكنيسة بمنزلة تهديد للنظام الديني القائم؛ فلقد تبنَّت الكنيسة منذ فترة طويلة وجهة نظر مركزية الأرض للكون؛ لأنَّها كانت تتماشى مع تفسيرات معينة للكتاب المقدس، وشكوك “جاليليو” المتمثلة في ملاحظاته الفلكية، ودفاعه عن أنموذج مركزية الشمس وضعته في صراع مباشر مع سلطة الكنيسة.

في عام 1633 واجه “جاليليو” محاكم التفتيش الرومانية الكاثوليكية، واضطر إلى التراجع عن آرائه، وبينما فعل ذلك تحت الإكراه؛ فإنَّ عمله والشك الذي أدخله في المناقشة مهَّدا إلى الطريق لتطورات علمية لاحقة، فرغبة “جاليليو” في التشكيك في المعتقدات الراسخة والالتزام بالملاحظة التجريبية، وضعته في نهاية المطاف للثورة العلمية، وفصل العلم عن العقيدة الدينية.

إذا نظرنا إلى الماضي؛ فإنَّ نزاع “جاليليو” مع الكنيسة يقف بمنزلة شهادة على قوة الشك في دفع التقدم العلمي، وتحدي المعتقدات الراسخة حتى في مواجهة معارضة كبيرة، ويستمر إرثه في إلهام العلماء والمفكرين للتساؤل عن الحقيقة واستكشافها، والبحث عنها من خلال التحقيق التجريبي.

الشك رحلة لا نهاية لها:

“الشك رحلة لا نهاية لها”، هي جملة تلخص جوهر الاستكشاف الفكري والفضول البشري؛ فالشك بمنزلة الرفيق الدائم في السعي المستمر إلى المعرفة والفهم، وإنَّه القوة التي لا هوادة فيها، وهي التي تجبرنا على التشكيك في الوضع الراهن، وتحدي المعتقدات الراسخة، والمغامرة في مناطق فكرية مجهولة.

مثلما يبحث المسافر عن آفاق جديدة، ينطلق المشككون في رحلة دائمة مدفوعة بالرغبة في كشف الحقائق والألغاز، وفي مجال العِلم إنَّ الشك في التجربة يؤدي إلى السعي وراء الأدلة والإجابات، ومن الناحية الفلسفية؛ فإنَّه يشجعنا على دراسة المسائل الأساسية للوجود والأخلاق، وتذكرنا هذه الرحلة المستمرة أنَّ الوصول لليقين؛ هو هدف بعيد المنال، وأنَّ شكنا لا يكفي فهو محرك التقدم؛ وهذا يؤدي بنا إلى استكشاف أنَّ المجهول لا نهاية له.

لقد قالها ابن الهيثم منذ زمن طويل:

إنَّ ابن الهيثم في جميع اكتشافاته كان يعتمد الشك أساساً في البحث العلمي، ولعل أبرز خمسة أقوال توضح ما قلناه هي الآتية:

  • المعرفة لا تأتي بالسمع والتصديق، إنَّما بالمنطق والتجربة، ثم بإعادة التجربة للتأكد من أنَّ النتيجة لم تكن صدفة.
  • إنَّ الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها؛ بل هو من يُعلِّق إيمانه بهم، ويتساءل ما الذي جناه منهم؟ وهو الذي يبحث عن الحجة ولا يعتمد على أقوال إنسان ممتلئة بكل أنواع النقص والتقصير؛ فإنَّ من الواجب على من يحقق في كتابات العلماء – إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه – أن يستنكر جميع ما يقرؤه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضاً حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل.
  • الحقائق غامضة والغايات خفية، والشبهات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدمات ملتقطة من الحواس، والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل؛ فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، من ثم تتشتت الآراء، وتفترق الظنون، وتختلف النتائج، ويتعذر اليقين.
  • سعيت دوماً نحو المعرفة والحقيقة، وآمنت بأنَّني لكي أتقرَّب من الله ليس هناك أفضل من أن أبحث عن المعرفة والحقيقة.
  • البحث عن الحقيقة في حد ذاتها أمر صعب، والطريق إلى ذلك وعر؛ فالحقائق يكتنفها الغموض، والله لم يعصم العلماء، ولم يحمِ العلم من النقص؛ ولو كان هذا الحال لما اختلف الناس على أي من مسائل العلم.

الشك يمثل رعب بالنسبة إلى المتزمتين:

إنَّ الخوف الذي يشعر به الناس عندما يواجهون المتشككين غالباً ما يعكس المقاومة البشرية الفطرية لتحدي معتقداتهم الراسخة، فمبدأ الشك بوصفه عنصراً أساسياً في التفكير النقدي يشكك في أسس الأفكار والمعتقدات والقناعات، وعندما يقوم المشككون بالتحقيق والتدقيق؛ فإنَّ ذلك يمكن أن يثير شعوراً بالضعف لدى الأفراد الذين لديهم تزمُّت لقناعاتهم ومعتقداتهم، وهذا الخوف متعدد الأوجه، وينبع من القلق من احتمال إثبات أنَّ نظرتهم للعالم غير دقيقة، أو لا أساس لها من الصحة، ويمكن أيضاً أن يكون مرتبطاً بالمنحى العاطفي الذي يمتلكه الأشخاص في معتقداتهم.

قد يكون الاعتراف بالشك أو الاستعداد للنظر في وجهات نظر بديلة تحدياً عاطفياً للناس المتزمتين لأفكارهم، ومع ذلك من الهام أن نُقدِّرَ أنَّ الشك عندما يتم إجراؤه باحتراف وصرامة يكون بمنزلة بوتقة لتحسين الأفكار وتطويرها، وفي حين أنَّه قد يثير القلق في البداية؛ فإنَّه يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى فهم أكثر عمقاً ورسوخاً للكون، وتعزيز الانفتاح على وجهات نظر جديدة؛ فإنَّ التفاعل بين المتيقنين والمشككين يمكن أن يكون حافزاً ديناميكياً للنمو الشخصي والجماعي في السعي وراء المعرفة والحقيقة.

في الختام:

إنَّ الشك كما تم ذكره في هذا المقال يقف بوصفه ركيزة أساسية يقوم عليها صرح البحث العلمي، فالشك يثير التساؤل ويغذي التجريب ويدفع العلماء إلى البحث المستمر عن فهم أعمق للعالم، وعبر قرون من التطور الفكري كان الشك هو القوة الدافعة التي أطاحت بالمعتقدات الراسخة وأطاحت بالبديهيات إلى وادي الخرافة، وأدت إلى التقدم الملحوظ في المعرفة العلمية سواء في مختبرات الماضي أم الأبحاث المتطورة، فقد ظل الشك هو النجم المرشد للعلماء؛ وهذا يقودهم إلى بحث لا ينتهي عن الأدلة التجريبية، والحقائق الموضوعية.

من خلال احتضان الشك؛ فإنَّنا نحتضن جوهر البحث العلمي؛ لأنَّه من خلال الشك والفضول نكشف أسرار الكون، وندفع تقدم المعرفة الإنسانية، وبينما نمضي قدماً سيظل الشك هو البوصلة التي يبحر بها العِلم في بحر المجهول الآخذ في الاتساع؛ مما يضمن أن تظل رحلتنا نحو الفهم نابضة بالحياة ومتواصلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى