التدريس والتعلم

تأثير التكنولوجيا في الأدب العربي


على الرغم من الفارق الشاسع بين معاني المفردتين، إلَّا أنَّ كلاً منهما هي نتاج العقل البشري، وأداة يسخرها الإنسان في تسيير أمور الحياة؛ مما تسبب في احتكاكهما وتبادل التأثير فيما بينهما، وهذا ما سنسلط الضوء عليه في مقالنا هذا.

الأدب العربي عبر التاريخ:

لطالما كان الأدب وعاء تاريخ الأمم ومذكراتها المكتوبة بخط أبنائها؛ لذا إنَّه مرآة الشعوب الحقيقية التي تعكس الواقع السائد كما كان، بعيداً عن التحيزات السياسية والاقتصادية وغيرها.

لعلَّ السبب وراء كون الأدب هو الأداة الأكثر مصداقية في التعبير عن أحوال الشعوب هو أنَّ الأدباء ملتصقون بالناس وهم أفراد منهم، فالشعراء والأدباء لطالما عايشوا التغيرات التاريخية والاقتصادية وعاينوها عن كثب، ولم يكونوا في أبراج عاجية يؤرخون الحياة عن بُعد.

باتِّباع خط الأدب وتحديداً الأدب العربي منذ العصور الجاهلية وحتى يومنا هذا؛ نلاحظ وجود منعطفات هامة في مسيرته من ناحية الموضوعات التي تناولها والمفردات التي تناول فيها الحديث عن هذه الموضوعات.

على سبيل المثال في الجاهلية حيث الحياة البدائية والطبيعة البكر والحروب والعصبيات القبلية كان الشعر مشابهاً تماماً لتلك الظروف؛ فهو ذو ألفاظ جزلة ومعانٍ صلبة تعكس القسوة التي كانت سائدة، فكنا نسمع من خلال كلمات القصائد صليل السيوف ونشم رائحة الدماء.

مع تقدُّم السنوات ومجيء الإسلام صبغت المفردات الدينية الأشعار والآداب العربية، ودخلت التعابير القرآنية في التعابير الأدبية، وبرز خط شعري لم يكُن موجوداً سابقاً هو خط الزهد والتصوُّف.

في مراحل لاحقة راح الأدب يتلوَّن بحسب طبيعة الحال؛ ففي الفترات العصيبة يرتدي رداء الصرامة والحدَّة، وفي فترات الرخاء يرق ويلين وكأنَّه كُتِب بحروف من بتلات الورد، وهذا ما يمكننا ملاحظته في الشعر الأندلسي مثلاً.

تلك الحقبة الزمنية اتَّسمت بسعة العيش والرخاء، وكانت القصائد والآداب الذاتية والوجدانية أبرز معالمها، بالإضافة إلى موضوعات الغزل العذري والصريح، فالإنسان في تلك الفترة أراح كاهله من هموم الحرب وتفرَّغ لنفسه وذاته ومشاعره.

في العصر الحديث استمر الأدب في حمل هموم الناس ونقلها من جيل إلى جيل، وتنوَّعت موضوعاته لتغطي كافة الأحداث التي تمر بها البشرية، فمن الحروب إلى الفقر إلى الحب وصولاً إلى التكنولوجيا التي تُعَدُّ من أهم سمات العصر الحديث.

شاهد بالفيديو: ما هي فوائد الثقافة؟

 

كيف تأثر الأدب العربي في التكنولوجيا؟

إنَّ الأدب العربي كنظيره العالمي تأثر في التكنولوجيا تأثيراً لا يمكن إنكاره، ولا يُعاب عليه هذا التأثير؛ فهو ابن البيئة والناس واللغة التي تحاكي همومهم وتعبِّر عن تطلعاتهم وتشرح معاناتهم، وكان تأثُّر الأدب العربي في التكنولوجيا عبر خطَّين؛ تأثُّر من حيث الموضوعات وتأثُّر من حيث المفردات، وسوف نتوسَّع بعض الشيء في شرح كل منهما.

أولاً: تأثُّر الأدب العربي في التكنولوجيا من حيث الموضوعات

إنَّ ما أحدثته التكنولوجيا من تغييرات وتسهيلات في الحياة البشرية لا يمكن إغفاله وخاصة في بداياته؛ وذلك لأنَّ الاختراعات الحديثة تلفت أنظار الجميع ومن بينهم الأدباء والشعراء؛ مما يدفعهم إلى تناول هذه الموضوعات في قصائدهم ومؤلفاتهم، وكما هو الحال عندما تناول الشاعر أحمد شوقي الطائرة في قصيدته التي قال فيها:

مركب لو سلف الدهر به

 

كان إحدى معجزات القدماء

حمل الفولاذ ريشاً وجرى

 

في عنانين له: نار وماء

وكذلك فعل الشاعر محمود غنيم الذي وصف المذياع قائلاً:

شادٍ ترنَّم لا طيرٌ ولا بشر

 

يا صاحب اللحن أين العود والوتر

والشاعر معروف الرصافي الذي أذهله القطار السريع الذي ينقل المسافرين فانبرى قائلاً:

وقاطرةٌ ترمي الفضا بدخانها

 

وتملأ صدر الأرض في سيرها رعبا

تمشت بنا ليلاً تجر وراءها

 

قطاراً كصف الدوح تسحبه سحبا

إنَّ التكنولوجيا قد أثارت فضول الأدب بشعره ونثره، وحرَّضت نزعته نحو الحديث عن كل ما هو جديد وملامس للحياة، ومن هذه النقطة تماماً نشأ نوع جديد من الأدب يُدعى “قصة الخيال العلمي” التي تدمج كما هو واضح من اسمها فنَّ القصة مع التطورات العلمية والتقنية لتتجاوز حدود الزمان والمكان.

لم يكُن لهذا اللون الأدبي أن يرى النور لو لم تدخل التكنولوجيا في الحياة البشرية؛ هذه الأداة التي جعلت أشياء مستحيلة في الماضي تحدث اليوم، فليس غريباً منها أن تحقق غداً معجزات الحاضر.

من نتائج تأثر الأدب في التكنولوجيا نشوء مفهوم “الرواية التفاعلية” التي تُنشر بشكل حصري على مواقع الإنترنت ويكون التنقل بين أجزائها عبر الروابط التشعبية، وهذا نمط أدبي جديد لم يكُن موجوداً سابقاً قبل وجود التكنولوجيا.

ثانياً: تأثُّر الأدب العربي في التكنولوجيا من حيث المفردات

إنَّ الاختراعات والأدوات الجديدة لها مسميات تعبر عنها وتدل عليها؛ لذا من المنطقي أن تتناول الألوان الأدبية التي تتحدث عن الحقبة الراهنة هذه الاختراعات وتدعوها بأسمائها المتداولة.

وهذا ما يمكننا لمسه في قصيدة محمد فضل شبلول عندما قال:

أولادي.. تركوا البيتَ وذهبوا للبحر

ومكثتُ أنا.. مع شاشة الإنترنت

أبحثُ عن معلومات بحريَّة

كان النورس يبكي فوق الرمل الأبيض

كَبَّرتُ النورس أضعافاً

نقر الشاشة بالمنقار الفضِّي

فانسكب الضوء عليَّ

صرتُ شعاعاً من ليزر…

الأدب بين الرقمي والتفاعلي:

لم نكُن لنسمع مفردات جديدة مثل “الإنترنت والشاشة” في القصائد قبل وجود التكنولوجيا، ولم يكُن لنا لنتخيَّل صورة “نقر الشاشة” قبل وجودها في حياتنا، وهذا يوضِّح فعلاً كيف أضافت التكنولوجيا إلى الأدب مفردات وتراكيب جديدة.

شاهد بالفيديو: إيجابيات مواقع التواصل الاجتماعي

 

كيف تأثرت التكنولوجيا بالأدب؟

أولاً: التأثير الإيجابي للتكنولوجيا في الأدب

  • إنَّ تأثُّر التكنولوجيا بالأدب جاء على شكل تحوُّلها إلى أداة تساهم في احتوائه وانتشاره وحمله إلى جميع متذوقيه، فحلَّت الأوراق والمستندات الرقمية محل الأوراق العادية لأنَّها أقل مساحة وتكلفة، وصار قرص تخزيني واحد يقوم مقام مكتبة هائلة.
  • من طرائق تأثُّر التكنولوجيا بالأدب أيضاً أنَّها حوَّلت أجزاء منها إلى مستوعبات أدبية، ونقصد هنا المكتبات الرقمية التي أُنشِئَت لتضم آلاف الكتب وتكون مرجعاً للقراء، فبعد أن كان الحصول على كتاب ما بنسخة ورقية أمراً مربكاً – وخاصة إذا ما كان من دولة أخرى – حلَّت المكتبات الرقمية هذه المشكلة ووفَّرت للقراء على امتداد العالم الكتب التي يرغبون في الحصول عليها أينما وجدوا، مع إمكانية حفظ هذه الكتب على أجهزتهم الشخصية للعودة إليها حتى في حالات عدم توفر الوصول إلى الإنترنت.
  • إنَّ التكنولوجيا وعن طريق وسائل التواصل الاجتماعي تحوَّلت إلى مساحات للنقاش الأدبي تمكِّن القرَّاء من التواصل مع كتَّابهم المفضلين وتتيح لهم تقديم تغذية راجعة تتعلق بالأدب الذي يقدمه الكاتب؛ مما عاد بالنفع على الأخير بمقدرة التعرُّف إلى أصداء عمله الأدبي بين الجمهور بطريقة تفاعلية مباشرة، فضلاً عن الاطِّلاع على تطلعات القراء بما يخص أعماله القادمة.
  • وفَّر وجود التكنولوجيا على الكتَّاب مبالغ مالية باهظة كان من المفترض دفعها إلى دور النشر، وقُدِّمت لهم ميزة نشر أعمالهم الأدبية على الإنترنت وتحويل المنصات الرقمية إلى منابر يتواصل من خلالها الأدباء مع الجمهور تواصلاً سلساً ومباشراً.
  • فيما يتعلق بالكتَّاب والأدباء الراحلين أتاحت التكنولوجيا ميزة الحفاظ على أثر من وجودهم عن طريق الاحتفاظ بالمقابلات التلفزيونية المسجَّلة والأعمال التي قدموها وقرؤوها بأصواتهم، وهذا ما لا يقدَّر بثمن، كما أنَّها سمحت للقرَّاء من الجيل الجديد بالتعرُّف إلى أشكال هؤلاء الأدباء وأصواتهم وآرائهم الحياتية عن طريق صورهم ومقابلاتهم المحفوظة في أرشيف المحطات والمواقع الإلكترونية.
  • تُضاف إلى هذه الميزة إمكانية تقرُّب الكاتب المعاصر من جمهوره عن طريق استماعهم لآرائه وتطلعاته عن طريق المقابلات التلفزيونية التي تجرى معه والمنشورات أو المحتويات التي يشاركها عبر الشبكة العنكبوتية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي.
  • من طرائق تأثُّر التكنولوجيا بالأدب أنَّها تحولت إلى أداة مزج بين الأدبيات التابعة إلى ثقافات مختلفة؛ فعن طريق الإنترنت أصبح القارئ العربي قادراً على الاطِّلاع على الآداب الإنسانية الأخرى وتصدير أدبه أيضاً إلى ثقافات أخرى، ومن هذا التفاعل والتعرُّف وُلِدت أنواع أدبية جديدة أثْرَت الأدب العربي وزادت من تنوعه، ونذكر مثالاً عنها شعر الهايكو الياباني الذي بدأ بالانتشار في أوساطنا العربية في الآونة الأخيرة.
  • ساهمت التكنولوجيا في توفير المادة الأدبية لجمهور أوسع من جمهور القرَّاء؛ وذلك عن طريق تحويل الملفات المقروءة إلى ملفات مسموعة يمكن الاستماع لها في أثناء القيادة أو السفر أو أداء المهام المنزلية، كما تحوَّل قسم آخر من المواد المقروءة إلى مواد مرئية تعزز امتصاصها من قِبل المهتمين، وهذا يناسب كثيراً الجمهور من صغار السن، ويساهم في تعزيز إيصال الفكرة إلى المشاهدين.

ثانياً: التأثير السلبي للتكنولوجيا في الأدب

في الوقت ذاته وعلى الرغم من الإيجابيات الكبيرة للتفاعل بين التكنولوجيا والأدب، إلَّا أنَّه توجد بعض السلبيات التي نجمت عن هذا التفاعل، لعلَّ أبرزها هو طفو بعض المتسلقين للأدب على واجهة المواقع الأدبية، أولئك الذين لا تَمُتُّ منتوجاتهم للأدب بصلة، ولم يضيفوا إلى المحتوى الأدبي سوى تمييع القضايا والاستخفاف بذائقة القراء، ورغم ذلك استطاعوا بناء قواعد جماهيرية وشعبية على مواقع التواصل؛ مما يثير القلق المتعلق بمستقبل الأدب الذي تحاول هذه التيارات السامة تشويهه والإساءة إلى نبله وأهدافه السامية.

في الختام:

إنَّ الأدب والتكنولوجيا في عصرنا الراهن إلى الأدب كل الخير والتطور له، وحمل دخول الأدب على التكنولوجيا كل الإفادة لها؛ وبهذا فإنَّ هذه العلاقة الناتجة عن تشابك هذين العنصرين حملت كل الفضل والخير للبشرية.

المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى